المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه.(أرشيف)
المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه.(أرشيف)
الخميس 2 أغسطس 2018 / 20:56

ريجيس دوبريه وأيقونات اللاشعور السياسيّ!

"اللاشعور السياسيّ" عند ريجيس دوبريه يعني ذاكرة الدولة التأسيسية الاشتراكية وذاكرة الآباء المؤسسين التي لابدَّ من الحفاظ عليها في ذاكرة الحزب والجماعة

في أواخر ستينيات القرن الماضي، قطعت فلاحة تنزانية عجوز أكثر من ثلاثمائة كيلومتر من قريتها البدائية الصغيرة إلى العاصمة سيراً على الأقدام، وهناك ذهبت مباشرة إلى القنصلية الشعبية لبكين كي تلمس بيديها صورة المرشد الأعلى للبروليتاريا العالمية الذي توفي للتوّ في تلك السنة الزعيم الصينيّ ماوتسي تونج! وفي اليوم التالي فارقت هذه العجوز التنزانية الحياة وملامح وجهها تطفح بالبشر والحبور، وفق الرواية الرسمية لراديو بكين الشيوعية! لقد جاءت هذه الرواية في كتاب"انتقاد العقل السياسيّ"Critique of Political Reason" للمفكر والمناضل الماركسيّ الفرنسيّ ريجيس دوبريه، وهو الذي قضى جزءاً كبيراً من حياته رفيقاً لتشي جيفارا ثم اعتُقِلَ لمدة عشر سنوات لاتهامه بالمشاركة في حرب العصابات في أمريكا اللاتينية. لقد كان اعتقال ريجيس دوبريه وبقاؤه في السجن بضع سنوات فرصة ثمينة بالنسبة إليه لإعادة النظر في تجربته النضالية؛ حيث مارس السياسة فابتعد عن السياسيّ. ولذلك كان السجن هو الذي سيعيده وبعمق لممارسة تجربة التأمل وانتقاد الماركسية في أصولها وفي تطبيقاتها السياسية. كان دوبريه هو أول من ابتكر مصطلحي"اللاشعور السياسيَّ" و"العقل السياسيَّ"، وهو المصطلح الذي سنجده فيما بعد حاضراً وبقوة في أعمال بعض المفكرين العرب المعاصرين كما سأبين بعد قليل.

يقصد دوبريه بهذين المصطلحين تلك التمثيلات الرمزية وذلك المخيال الذي يتحكم وبعمق وبصورة لاواعية في الأنظمة السياسية، خاصة الأنظمة الاشتراكية التي كانت مجال دراسته وانتقاده. واستطاع دوبريه أن يحلّل هذه الأنظمة ويفككها، وأن يبحث حتى في الميثولوجيا الإغريقية عن الأنظمة السياسية المخبوءة في ثناياها! وفي أمريكا اللاتينية حيث تحضر الثقافة المسيحية وبعمق، من الصعب، كما يذكر دوبريه، أن نفصل بين هذه الثقافة المسيحيّة الكاثوليكية وبين الثقافات النضالية هناك المطبوعة بالطابع الماركسيّ! هناك يسود ذلك التمسك الواضح بانتظار عودة المسيح، والتعطش للعدل والأمل في "مملكة السماء"، ولذلك ينذر المناضل والزعيم زاباتا نفسه للعذراء! ويهتم المناضل ساندينو بالنظرية الإشراقيّة القائلة بالاتحاد بالربَّ! وتسود الأخلاقية الكاثوليكيّة الفكر الماركسيّ هناك إلى الحدّ الذي يدعو للدهشة! لقد تحوَّل لينين وستالين وماوتسي تونج وهوشي منه وتيتو وغيرهم من الزعماء الشيوعيين إلى أيقونات سياسيّة متجسدة مادياً في تلك الأضرحة المقدسة التي يزورها مريدوها.

"اللاشعور السياسيّ" عند ريجيس دوبريه يعني ذاكرة الدولة التأسيسية الاشتراكية وذاكرة الآباء المؤسسين التي لابدَّ من الحفاظ عليها في ذاكرة الحزب والجماعة. وقد كان المفكر المغربيَّ محمد عابد الجابريّ في كتابه"العقل السياسيّ العربيَّ" متأثراً وبعمق بكتاب ريجيس دوبريه، وقد أشار بوضوح في مقدمة كتابه إلى هذا التأثّر مع اختلاف طبيعة المعالجة. يقول الجابريّ: "كلَّ مجتمع ينشئ لنفسه مجموعة منظمة من التصورات والتمثلات؛ أي مخيالاً، من خلاله يعيد المجتمع إنتاج نفسه، مخيالاً يقوم، بالخصوص، بجعل الجماعة تتعرف بواسطته إلى نفسها على شكل رموز تأسيسية".وبالفعل تحتاج الدول والجماعات إلى "العقل السياسيّ" أو "اللاشعور السياسيّ"، كما يذكر دوبريه، ممثلاً في رموزها السياسية والثقافية في المواكب والاحتفالات بذكرى التأسيس وفي الاحتفالات والمتاحف وغيرها للحفاظ على ذاكرتها الرمزية التأسيسيّة.

كتاب "انتقاد العقل السياسيّ" لريجيس دوبريه يعد من وجهة نظري من الكتب التأسيسيّة المهمة في القضايا المتعلقة ب"المخيال السياسيّ"، وهو رغم انغماس مباحثه في تفكيك الرموز التأسيسّية الخاصة بمنظومة الدول الاشتراكية، إلا أنَّ مباحثه الأولى تتمتع بقدر كبير من الطرافة والجدة في هذين المصطلحين المبتكرين اللذين أوجدهما دوبريه "العقل السياسيّ"و"اللاشعور السياسي". هذا الكتاب الملهم كان له تأثيره الفاعل في عدد كبير من المقاربات التي احتذت به منهجياً لدى مفكرين من مختلف أنحاء العالم.