ابن المعتز مؤسس علم البديع القرن الثالث الهجري.(أرشيف)
ابن المعتز مؤسس علم البديع القرن الثالث الهجري.(أرشيف)
الأربعاء 15 أغسطس 2018 / 20:13

حياة وفن ابن المعتز

البلاغة عند ابن المعتز، هي بلوغ مكان ناء دون طول السفر إليه

ابن المعتز، الشاعر، والأديب، والشخصية البارزة ضمن شخصيات نبغتْ في القرن الثالث الهجري. وُلد في عام 247 هجرياً، في بيت الخلافة، وولىَ والده محمد المعتز، ابن الخليفة المتوكل، ابن المعتصم، العرشَ عام 252 هجرياً، ومكث في الخلافة ثلاث سنوات، وقُتل بعدها على يد الأتراك، وأثناء تلك الفترة كانت لنكبة والده، أثر عميق على حياته. تلقى ابن المعتز ثقافته في الدين واللغة والأدب، على شيوخ العربية، وأئمتها، فكان من أساتذته المبرد وثعلب، وسواهما من أدباء هذا العصر. عاش ابن المعتز يُظهر انصرافه عن الخلافة، وقُبض عليه حيناً ثم أُطلق سراحه، ووُضع موضع المُرَاقَبَة، وكان يقول: مَنْ يشتري حسبي بأمن خمول.. مَنْ يشتري أدبي بحظٍ جهول.

لا يزهد في حسبه الرفيع فقط، بل أيضاً في أدبه الرفيع. فرادة ابن المعتز في القول السابق، تبدو في امتداح رفاهية الأمن بكلمة "خمول"، وهي كلمة قاسية، غريبة، لوصف أمن العيش ودعته، كما يظلم كثيراً صنعته الأدبية الرفيعة، بالاستغناء عنها، مقابل ضربة الحظ. في المثل السائر، نقول: قيراط حظ ولا فدان شطارة. كأنّ ابن المعتز لا يريد من المستقبل شيئاً يستحقه، لا يريد حسبه، لا يريد نسبه، لا يريد صنعته. تُشبه حالة ابن المعتز حلماً رواه ميلان كونديرا في رواية "الخلود"، كان الحلم يتعلق بوالد البطلة، الوالد على متن سفينة لها مصير تيتانك، وأمام لحظة الغرق، يجري الجميع في صراع وحشي، من أجل النجاة. والد البطلة يُشيح بوجهه، ويقف في مكانه جامداً، نافراً، من رغبة النجاة حوله. هكذا نظر ابن المعتز لرغبة مَنْ حوله في السياسة والأدب، فتمنى أن يُشيح بوجهه عن الاثنين معاً.

مات المكتفي عام 295 هجرياً، وولَّى الأتراك بعده، المقتدرَ الذي كان طفلاً، فثار الناس في بغداد، وانتهتْ الثورة المسالمة بخلع المقتدر عن الخلافة، وتولية ابن المعتز في عام 296 هجرياً. مكث ابن المعتز في الخلافة ليلة واحدة، حيث عاد المقتدر الطفل، ومن ورائه الأتراك، وقُبض على ابن المعتز، وقُتل في 296 هجرياً.

قال ابن المعتز في الدنيا: وعد الدنيا إلى خُلفٍ، وبقاؤها إلى تلفٍ، وبعد عطائها المنع، وبعد أمانها الفجْعُ، طوَّاحة طرَّاحة، آسية جرَّاحة، كم راقد في ظلها قد أيقظته، وواثق بها قد خانته، حتى يلفظ نفسه، ويودع دنياه، ويسكن رمسه. وقال في الموت والعمر: الموت سهم مُرسل إليك، وعمرك بقدر سيره إليك. وقال: الدهر سريع الوثبة، شنيع العثرة. وعن الكتمان قال: كنوز الأسرار إذا كثر خزانها ازدادتْ ضياعاً. وقال عن الغضب: الغضب يُنبئ عن كامل الحقد، ومَنْ أطاع غضبه، أضاع أدبه، وحدة الغضب تعثر المنطق، وتقطع مادة الحجة، وتفرّق الفهم، وعقوبة الغضب تبدأ بالغضبان، فتقبِّح صورته، وتثلم دينه، وتعجّل ندمه.

من مؤلفات ابن المعتز "طبقات الشعراء"، و"البديع"، و"رسائل ابن المعتز"، و"رسالة في محاسن ومساوئ شعر أبي تمام"، و"سرقات الشعراء"، وقد أشار له الآمدي في الموازنة، وورد ذكره في بعض المراجع مثل "شذرات الذهب"، و"الفهرست".

يمتاز أشهر آثار ابن المعتز، وهو كتاب "طبقات الشعراء"، بأنه يذكر فقط الشعراء الذين مدحوا بني العباس، واتصلوا بهم، ويعترف بأنه لا يهتم بكل شعر الشعراء، وإنما هو يقدم من الشعر ما ليس موجوداً إلا عند الخاصة. طبيعة الناقد الكامنة في شخصية ابن المعتز، جعلتْ كتابه شائقاً، فهو يبدي رأيه في القصائد طبقاً لمعايير نقدية صالحة ومقبولة، وهو حسن الاختيار، جيد الانتقاء.

ومن المآخذ التي تُسجَّل على كتاب "طبقات الشعراء"، أنانية ابن المعتز في عدم ذكر عدد كبير من الشعراء، عن عمد، مع أنهم مدحوا قومه، وهم من الشعراء الأعلام، وفي مقدمتهم ابن الرومي، لكن لعل لابن المعتز عذراً، فابن الرومي كان معادياً لابن المعتز، وكان يعيش في كنف القاسم بن عبيد الله، الذي كان واحداً من الذين أوقعوا بابن المعتز كثيراً من الضرر، ولم ينس ابن المعتز هجاء ابن الرومي في أبيه المعتز بالله، يوم أن خُلع عن كرسي الخلافة.

أختم المقال هنا بدرة خواتيم بلاغاته، فالبلاغة عند ابن المعتز، هي بلوغ مكان ناء دون طول السفر إليه. يقول: لحظة القلب أسرع خطرةً من لحظة العين، وأبعد مجالاً، وهي الغائصة في أعماق أودية الفكر، والمتأملة لوجوه العواقب، والجامعة بين ما غاب وحضر، والميزان الشاهد على ما نفع وضر، والقلب كالمُمْلي للكلام على اللسان إذا نطق، واليد إذا كتبتْ، والعاقل يكسو المعاني في قلبه أولاً، ثم يبديها بألفاظ كواسٍ في أحسن زينة.