السبت 18 أغسطس 2018 / 20:40

فلسفة السعادة عند الشيخ محمد بن راشد

نُشر لشخصي المتواضع كتاب في 2014 يحمل عنوان "السعادة الأبدية بين الدين والفلسفة" وفكرته هي تتبع كل ما قاله الحكماء والعظماء حول موضوع السعادة، ابتداء من فلاسفة اليونان الأوائل إلى أيامنا هذه. رصدت آراءهم المعروفة، وآراء أخرى غريبة صادمة، مثل قول سيغموند فرويد إن الإنسان لم يُخلق للسعادة، بل للتعاسة، وكل ما سيحصل عليه هو لحظات سعيدة قليلة، هذه اللحظات ليست سوى إشباع شهوة طال إلحاحها (يقصد الشهوة الجنسية) وأن الحل عنده لشقاء الإنسان هو تعاطي المخدرات! رأي غريب مدمر لطبيب نفسي مشهور وصاحب إسهام فلسفي عميق.

لقد مضى على صدور الكتاب أربع سنوات لكن يبدو أنه مشروع مفتوح لا ينتهي. أصبح عندي "افتتان" بالفكرة. كلما خطر ببالي شخصية مشهورة سألت نفسي: ما هو موقفه من السعادة؟ درست تولستوي ودوستويفسكي وغيرهم، كل هذا حدث بعد صدور الكتاب.

لقد انتهجت منذ البداية أن أبتعد عن التكرار، ابن سينا مثلاً، تعتمد نظريته في السعادة على الفارابي، والفارابي لم يضف أي شيء جديد على ما قررته أخلاق أرسطو. لذلك استبعدتهما واستبعدت كل علماء الكلام, لأنهم لا يضيفون شيئاً جديدا أصيلا.

الفكرة الأصلية التي أشغلتني هي استكشاف أفكار جديدة عن السعادة لا نعرفها، بحيث تتشارك فيها كل الإنسانية. نصحني صديق فقال: اقرأ كتاب الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم (تأملات في السعادة والإيجابية) (صدر في السنة الماضية) فقرأته، وواقعاً لم أفاجأ بأن يكون في الكتاب إضافات قوية من شخصية ناجحة سياسياً واقتصادياً كالشيخ محمد.

القضية في هذا الكتاب ليست تحقيق السعادة الفردية فقط، هذا طموح صغير، بل يربط المؤلف بين تلك وبين السعادة المجتمعية وبين دوره كقائد وبين سعادة مواطنيه من أبناء دولة الإمارات، بسعادة العرب جميعاً والإنسانية ككل. لعل الإشارة للعرب سببها ما أورده المؤلف حول تقرير السعادة العالمي 2015 والذي يشير إلى أن معدلات التشاؤم والاكتئاب في منطقتنا العربية هي الأعلى على مستوى العالم، خصوصاً بين الشباب، ولا عجب فأخبارنا السلبية والتوترات تفوق بكثير كل ما في العالم.

يقول الشيخ محمد بن راشد : " نعم، نحن نسعى لإسعاد الناس، وسيظل إسعاد الناس غاية وهدفاً وبرامج عمل، حتى يترسخ واقعاً مستمراً".

عند الشيخ محمد بن راشد، تحقيق السعادة للناس هي سعادة بحد ذاتها، وسعي القائد لتحقيق السعادة لشعبه له أثر إيجابي عظيم عندما يعلم المواطن أن حكومته تسعى لخيره ولتحقيق مصالحه وتوفير الفرص له ولأبنائه من خلال توفير كل الأدوات والمهارات. هذا برأيه سيلغي كل عداوة تقع بين الحكومات وشعوبها, عندما يتحقق الرضا على الصعيد النفسي والمجتمعي يتحقق النجاح، والسعداء ينتجون أكثر ويعيشون حياة أطول، ويقودون التنمية الاقتصادية في بلادهم، هذا ما نصّت عليه الدراسات العلمية التي يتابعها الشيخ محمد بن راشد باستمرار، لذلك نجده يقول إن السعادة يمكن قياسها، ويمكن تنميتها، وربطها بالقيم، وإدخالها في برامج تطويرية.

الإيجابية هي طريقة تفكير، غير نظرتك للأشياء تتغير الأشياء، والسعادة أسلوب حياة، فليست الأشياء هي التي تجعلنا سعداء بل طريقة تفكيرنا ونظرتنا للأمور والكيفية التي تعمل بها عقولنا، وهكذا فالعلاقة بين الإيجابية والسعادة، علاقة المقدمة المنطقية بالنتيجة.

الإيجابية عند الشيخ محمد هي النظارات التي يضعها الإنسان على عينيه عندما ينظر إلى العالم الواقعي من حوله. لذلك كان جوابه على سائل يسأله :" ماذا تعني لك الصحراء؟ فقال : البعض يراها صحراء قاحلة لا ماء ولا كلأ، أما أنا فأراها بعين شاعر يراها مصدراً للإلهام والتأمل، وكمسئول يراها ثروة وطنية عظيمة، ومصدراً من مصادر الدخل. لقد اجتذبت الصحراء السياحة، وأصبح هناك 14 مليون سائح يفدون سنوياً لرؤية هذه الصحراء". الصحراء لم تصبح عقبة، بل تحولت مع التفاؤل والعمل، إلى قطاع جديد يصب في صالح اقتصاد الدولة. كثير من المنشآت السياحية تبنى اليوم في وسط الصحراء، ومئات الشركات تعمل هناك.

التفاؤل له تأثير عميق في نمو الاقتصاد والسعادة تحقق وفراً مالياً كبيراً يعود للدولة ومواطنيها، فهي تؤثر في الصحة، والمجتمع الصحي تقل حاجة أفراده للعلاج وهذا ينعكس أيضاً على إنتاجية الموظفين، وهذا يؤثر في الناتج الاقتصادي، وبالتالي فالسعادة هي ثروة الشعوب.

هناك فكرة قوية في هذا الكتاب هي أن الموظف الذي يكون أكبر أحلامه أن يعمل في الحكومة وبعد ذهاب شبابه، يكون أكبر همه أن يحصل على راتب تقاعدي يعيش عليه، أن هذا الشخص قد عاش على هامش الحياة. إنها فكرة تحفيزية قوية وصادمة فعلا، ومع هذا فكلنا يعرف أن الذين سيصنعون الفارق ويحققون النجاحات الكبرى هم قلة قليلة جداً من البشر، ولن نخاف من فراغ الدوائر الحكومية من الموظفين.

ومن الأفكار التي أعتبرها أضافة بارزة، نظرة الشيخ محمد بن راشد للتحديات، فكثير من الفلاسفة يرون السعادة في الهروب من المواجهة، ولذلك قال ديكارت "عاش سعيداً من أحسن الاختفاء" وقد قالها أبيقور قبله، أما الشيخ محمد فيرى أن التحديات فرصة عظيمة لاكتشاف قدراتك وقواك الخفية الكامنة، عندما تصبر وتواجهها وتبدع في اختراع الحلول فتتجاوز كل الأزمات.
استشهد الشيخ محمد بشخصيات عظيمة كثيرة في هذا الكتاب، من الشرق والغرب. لكن من الواضح أن أعظم شخصيتين أثرتا في تكوينه هما شخصيتان تكلم عنهما بكثير من الحب والامتنان والوفاء : الشيخ زايد آل نهيان مؤسس الإمارات ووالده الشيخ راشد آل مكتوم.

يقول الشيخ محمد : "من يصدق أن رجلين في خيمة في الصحراء عام 1968 كان لديهما هدف بناء دولة متقدمة عالمية ومتطورة؟ بل كانا يريدان لها أن تكون مدنها كمدن العالم الكبيرة التي زاراها مرات قليلة". ويصف الشيخ زايد بقوله : "لم يكن الشيخ زايد من الذين يقنعون بالحدود التي يضعها له الآخرون، وهذه إحدى صفات القائد الإيجابي". واستشهد لذلك بعدة أحداث، منها واقعة تخضير أبو ظبي وزراعتها. الشيخ زايد كان يملك الرؤية النهائية لما يريده أن يحدث على أرض الواقع، فقال له الخبراء : هذا مستحيل، بسبب التربة الملحية، وشح المياه، والظروف المناخية الصعبة، وغيرها من العقبات التي قد تبدو منطقية لمحدود الطموح، إلا أن الشيخ زايد أصر على صناعة المستحيل، من خلال إيجاد الحلول وإصلاح التربة والإتيان بالمياه من أماكن بعيدة، فزرعت أبوظبي بغابات وأشجار كثيرة وأصبحت خضراء جميلة كما نراها اليوم وكذا جزيرة صير بني التي تحولت إلى جنة خضراء، وتم اختيار الشيخ زايد كرجل البيئة على مستوى العالم في تلك الفترة. لقد كان الشيخ زايد صاحب حلم كبير وقد حقق حلمه بالجهد والعمل والتفاؤل والإيجابية وما قصة زراعة أبوظبي إلا قصة واحدة من نجاحات يصعب حصرها. هناك قصص عديدة عن الشيخ زايد الذي يعتبره الشيخ محمد بمثابة الوالد له.

ويستشهد الشيخ محمد بقصة أخرى لوالده الشيخ راشد آل مكتوم في أواسط الخمسينات عندما أراد توسعة خور دبي، لأنه كان يريد استقبال سفن أكبر في موانئه، واستقطاب الشركات الكبرى، فقال الخبراء إن التكلفة عالية : 600 ألف جنيه استرليني. كان هذا الرقم أضعاف دخل دبي كلها، إلا أن القائد الإيجابي الذي يريد أن يغير مجرى التاريخ للأفضل لا يرضخ للظروف، إذا تحلى بالثقة الكافية والإبداع اللازم لتخطي العقبات. ابتكر الشيخ راشد الحلول، فأصدر سندات الخور وموّل جزءا آخر منه بطريقة مختلفة، حيث قام باستخدام الصخور والرمال المرفوعة من الخور، في إضافة جديدة يمكن الاستفادة منها. وهكذا قبل أن تمر سنتان، تم إنجاز المشروع وتضاعفت حركة التجارة مرات عديدة كما هو معروف، وتغيرت الحياة إلى الأفضل. وهناك قصة رائعة أخرى للشيخ راشد عندما قرر بناء أطول برج في الشرق الأوسط في مطلع السبعينات، في وسط الصحراء "مركز دبي التجاري".

يقول الشيخ محمد بن راشد "أغمض عينيك لترى" لا بد أن تكون الصورة النهائية في ذهنك، ولا بد أن تكون واثقاً في قدرتك على تحميل الصورة إلى واقع. القائد الإيجابي هو الذي يُغمض عينيه ويتخيل المستقبل ويرى الإنجاز الذي يريد تحقيقه، بكل تفاصيله وبكل جماله.

هذه فقط لمحة عما يوجد في هذا الكتاب العملي المختلف، اختصرتها لتناسب مساحتي هنا، وإلا فالكتاب يحوي المزيد مما لم نتطرق إليه هنا من حكيم قائد خاض تجربة عظيمة استفاد منها وأفاد، وأصبح رمزاً كبيراً من رموز الإمارات، بل في الثقافة العربية والعالمية.

هل الشيخ محمد بن راشد فيلسوف؟ نعم هو كذلك بلا ريب، وهو يجمع المثالية والواقعية معاً، إنه "سقراط العرب" فسقراط الإغريقي كان يلوم الفلاسفة قبله، لأنه انشغلوا بتفسير الوجود الذي لم يصلوا قط إلى تفسيره، انشغلوا بالرياضيات والفلك والعلم الطبيعي، وتركوا ما هو أهم، انشغلوا عن الإنسان وما يحقق سعادته ورفاهه. لكن سقراط كان فيلسوفاً له تلاميذ ولم يكن قائداً، أما الشيخ محمد بن راشد فقد جمع الاثنتين، فصار أشبه ما يكون بماركوس أورليوس "الملك الفيلسوف" رأس الفلسفة الرواقية الرومانية، ومن طالع فلسفته التي بثها في كتابه "التأملات" فسيجد نفس الروح، ونفس القلب الذي يريد السعادة لكل البشر.