غلاق  رواية "البوصلة" لماتياس إينار.(أرشيف)
غلاق رواية "البوصلة" لماتياس إينار.(أرشيف)
الإثنين 20 أغسطس 2018 / 20:04

بوصلة الشرق

نقرأ الرواية ذات الـ 500 صفحة وكأنها شبكة شائكة من الطرق. لكل طريقه هنا وقلّما يلتقي طريقان وقلّما نجد الطريق. إننا أمام زمرة من المستشرقين يلتقون ويتكلمون، لكل من هؤلاء شخصه ومساره

"البوصلة" عنوان رواية ماتياس إينار الصادرة عن دار الجمل بترجمة محكمة لطارق أبي سمرا. البوصلة بالتأكيد هنا مجاز متواتر في البلاغات ويفترض أنها تعني "الطريق" أو "الهداية" أو "الجهة الصحيحة".

وفي رواية من 500 صفحة كرواية ماتياس إينار فإن عنواناً كهذا وازن ويدعو إلى تحرّيه والبحث عما يوازيه في الرواية. الحق أننا لا نصل بسهولة إلى ذلك، فليس في الرواية ما يمكن أن نعتبره السبيل الصحيح، ولا يبدو في الأساس أن هذا همّ الروائي، فليس أمامنا عدّة سبل لنختار بينها الأصوب، بل إذا تناولنا الرواية من هذه النهاية لا نجد أن هذا منحاها أو شاغلها. لا توحي الرواية بأنها ترشد الى سواء السبيل أو أنها تعلّم كيفية الوصول إليه، بل لا توحي الرواية بأن فيها بوصلة من أي نوع، فالطرق فيها بعدد السائرين، وجميعها متشابكة وشائكة ولا تفضي إلى شيء، حتى نعثر وسط الرواية على بوصلة حقيقية وليست مجازاً، بوصلة حقيقية يمتلكها الراوي واختبرها فوجد أنها تدل إلى الشرق بدلاً من أن تدل إلى الشمال كما هي وظيفتها. لا يشرح الراوي، وهو هنا المؤلف بأكثر من دليل، السبب، وحُقّ له أن لا يشرح فكرته، فالامتناع عن الشرح أبلغ، ومع أن الرواية رواية غربيين يجمعهم الاستشراق فإن المؤلف لا يحذو حذو غوته ورامبو وآخرين في اعتبارهم الشرق طريق الخلاص. بوصلة ماتياس إينار لا ترشد إلى جهة ولا تحلّ الشرق مكان الشمال. كل ما في الأمر أنها مشوشة ولا تحسن الهداية. إنها بوصلة خطّاءة وإذا دلت إلى شيء فهو أنه لا بوصلة ولا طريق للهداية والخلاص.

يمكننا مع ذلك أن نقرأ الرواية ذات الـ 500 صفحة وكأنها شبكة شائكة من الطرق. لكل طريقه هنا وقلّما يلتقي طريقان وقلّما نجد الطريق. إننا أمام زمرة من المستشرقين يلتقون ويتكلمون، لكل من هؤلاء شخصه ومساره. الراوي الذي يقوم أكثر من دليل على أنه المؤلف نفسه، هو بالإضافة إلى الاستشراق ومعرفته باللغات السامية متبحّر في الموسيقى وعالم بها وبأقطابها المعروفين وغيرالمعروفين، وهو بالطبع مستشرق في الموسيقى يعرف تاريخها وتبادلاتها، يعرف ماذا استمد الغرب من الشرق في الموسيقى وفي التصوير. ليس من هذه الناحية، هو النمسوي، متعصباً لغربيته بل نشعر، أنه يسعى إلى أن يشيل ظلماً عن الشرق ويعيد إليه ما هو له. جزء من الرواية يوازي رواية "فاوست" لتوماس مان وهي الأخرى رواية عالِمة وبطلها، شأن بطل "البوصلة"، متبحّر في الموسيقى. وإذا كان لنا أن نتكلم عن رواية ماتياس إينار فإننا نجدها تجول في موضوعي الاستشراق والموسيقى وتاريخهما، فضلاً عن موضوعات أخرى.

 الرواية رزم من قصص وأخبار وكشوفات متداخلة متشابكة. إنها تجول في تاريخي الموسيقى والاستشراق وتلاحقهما في قديمهما وحديثهما، وتنتقل من خبر لخبر ومن رواية لرواية ومن مكان إلى اخر وخاصة إسطنبول وطهران. إنها تخوض بخاصة في تاريخ استشراق المأسوي غالباً وتجول، في عواصم الشرق وتلاحق زمرة من المستشرقين في أخبارهم وكلامهم. ونحن نقرأها فلا نجدها تنعقد على شيء بل نراها تنتشر في موضوعاتها وتضيف خبراً إلى خبر ورواية إلى رواية، دالة في ذلك على تنقيب في الماضي والحاضر ولقىً في الماضي والحاضر، أغلبها غير مشهور وعثر عليه المؤلف في بحثه. إنها سرد طويل وأضمومات من الحكايا والأخبار. ليست المرة الأولى التي يُنشئ فيها ماتياس إينار رواية بهذا النسق الذي يستمده من علم واسع كما يستمده من تاريخ الرواية نفسها