داعية.(أرشيف)
داعية.(أرشيف)
الإثنين 20 أغسطس 2018 / 20:16

المهنة: داعية!

في العيد ينشط هؤلاء، فهو موسم مناسب لإطلالهم على الجمهور، و"التألق" في الأداء، لذا تكثر الإعلانات المدفوعة الأجر عن لقاءات مع الدعاة ودروس دعوية يحضرها الراغبون القادرون على دفع أثمان تذاكر الدخول

في سنوات التحول والرجوع كثر الدعاة وانتشروا... خرجوا من الزوايا وحلقات الذكر إلى شاشات التلفزة ومحطات الإذاعة وقاعات المناسبات الكبيرة، وصار لهم جمهور واسع يقبل على "دروسهم" ويتابع أخبارهم ويصدق كل ما يقولون، وينقل كلامهم وكأنه نصوص مقدسة!

صار لهم أيضاً مريدون ومعجبون، وأصبحوا نجوماً مثل أهل الفن، وأثْرَوا بما يفوق التصور في زمن كان صعباً وما زلنا نعيش تداعيات تحولاته وانحرافاته.

حدث ذلك في زمن ما قبل الخراب العام الذي سماه العرب ربيعاً، وقبل ظهور القاعدة بقليل، وتواصل مع اجتياح السرطان الداعشي للجسد العربي، وكأن موجة الدعاة التقليديين والحداثويين كانت تمهد الطريق وتهيئ الأرض لهذا النبت الشيطاني الذي اغتال الحياة في بلاد كل أهلها مؤمنون بالله.

تغير شكل الداعية، ولم يتغير خطابه، وعرفنا دعاة حليقي الذقون يرتدون ربطات العنق الفاخرة ويستبدلون التجهم والعبوس بابتسامات بلهاء، وأداء مسرحي يشبه في إخراجه انفعال القساوسة في حفلات التبشير في بعض كنائس الغرب الأمريكي.

وعرفنا "تائبات" هجرن الفن بعد "تأمين مستقبلهن" وأعلن التوبة ليمتهن الدعوة إلى الدين والفضيلة، ويفتين بحرمة التبرج وكأن مجتمعاتنا المحافظة أصلاً خارجة عن الدين وعن الأخلاق!

كل ذلك، في تقدير بعض الباحثين، كان ضرورياً لخلق مزاج مجتمعي قادر على قبول التطرف والتعايش معه، ودفع المجتمعات العربية إلى قطع الصلة بواقعها والابتعاد عن التفكير بما هو قادم، والعودة بالعقل والروح إلى ماض قيل لنا إنه كان مجيداً.

لذا لم يكن مفاجئاً أن تكون للقاعدة وداعش حواضنهما الاجتماعية في بلاد كنا نظنها تائقة إلى الحرية والانفتاح على العالم ومواكبة التحول الكوني بتجلياته العصرية.

بالطبع لم يكن الدعاة وحدهم في الميدان، فقد استفادوا من تجربة الإخوان المسلمين، وما أسسته الجماعة من وعي ظلامي في المجتمع العربي. وقد كان بعض هؤلاء الدعاة أعضاء في الجماعة، بينما لجأ آخرون وأخريات إلى أحضان الإخوان بعد "التوبة".

لم ينحصر النشاط الدعوي في ساحة السنة، فعلى الطرف الآخر من خريطة التقسيم الطائفي ظهر دعاة من الشيعة يحثون الناس على إحياء الماضي الدموي والتكفير عن ذنوب لم يقترفها عرب الألفية الثالثة، وكان أداء هؤلاء أكثر درامية من أقرانهم السنة، وهناك لقطات فيديو كثيرة تظهر من يقفز عن المنبر، ومن يتعلق بمروحة في السقف، ومن يلجأ إلى شتم الآخرين بألفاظ سوقية.

ومثلما عرفنا التطرف القاعدي والداعشي، عرفنا تطرف الحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن وتشكيلات أخرى أقل شأناً تظهر بين الحين والآخر في بلادنا لتشدنا إلى الوراء.

هي مدرسة واحدة وإن اختلفت فصولها، وهو خطاب واحد وإن اختلف مضمونه وشكل أدائه، وكل ما ينشطون لترويجه يعتمد النقل بدلاً من العقل، ويدعو إلى فضيلة كاذبة يريدون تحقيقها قسراً وبالدم.

في العيد ينشط هؤلاء، فهو موسم مناسب لإطلالهم على الجمهور، و"التألق" في الأداء، لذا تكثر الإعلانات المدفوعة الأجر عن لقاءات مع الدعاة ودروس دعوية يحضرها الراغبون القادرون على دفع أثمان تذاكر الدخول.

هذا ما يجري الآن في عواصم عربية تفتح أبواب المراكز لهؤلاء، وتعلن في الوقت ذاته رفضها للتطرف!