تعبيرية.(أرشيف)
تعبيرية.(أرشيف)
الثلاثاء 18 سبتمبر 2018 / 18:51

بناءُ الإنسان …. عن طريق الهدم (3)

لو استسلم السجينُ الهاربُ لنظرية الكهف والظلال، لما نجح في أن يخرج للحياة ويرى ضوءَ الشمس والبشر والجبال والأنهار وما سمع صوت العصافير وهزيم الرياح

هدم القوالب الجاهزة
أُكملُ معكم اليومَ الحديثَ عن المعادلة الثالثة من معادلات "البناء عن طريق الهدم"، كما أؤمن بها وشرحتُها في محاضرتي للجالية الأرمنية في مصر. كانت المعادلة الأولى هي: (هدمُ الهدمِ = بناء)، وكانت الثانية: (هدمُ الانهزام = بناء)، وطبّقنا المعادلتين السابقتيت بأمثلة الضفادع والجبال والفيلة والحبال، إضافةً إلى الأمثلة الشخصية التي مررتُ بها وتؤكد الفكرة. واليوم أحدّثكم عن المعادلة الثالثة التي تساعدنا على البناء.

l هدم القالب = بناء
لشرح هذه المعادلة؛ سأحي لكم عن "الكهف" ومجموعة "السجناء" الذين وُلدوا فيه وعاشوا كاملَ أعمارهم بين جدرانه، ثم ماتوا داخله دون أن يعرفوا شيئًا عمّا يجري خارجه. تلك هي "أسطورةُ الكهف" كما تصوّرها الفيلسوفُ الإغريقي أفلاطون قبل خمسة وعشرين قرنًا من الزمان. تصوّر أفلاطون أن بعض الأشخاص محبوسون منذ مولدهم داخل كهف حجري مظلم. مُقيّدون بالسلاسل من جميع أطرافهم، وجوههم مصوّبةٌ نحو حائط لا يرون سواه، وأعناقُهم متصلّبةٌ لا يقدرون على الالتفات إلى اليمين أو اليسار ليروا بعضهم البعض حتى. للكهف فتحةٌ واحدة في مواجهة الحائط. وأمام الفتحة شعلة نيران ترمي على الحائط المواجه لعيون السجناء ظلالَ مَن يسيرون بالخارج من بشر وحيوانات وغيرها. فيتصور سجناءُالكهف أن تلك الظلال هي البشرُ ذواتهم، وليس ظلالها. هنا تنتهي أسطورةُ الكهف التي شرح بها أفلاطون عالم المُثُل في الأعالي في مقابل العالم الافتراضي الذي نحياه في واقعنا الأرضي. والآن، أُكملُ أنا الحكاية من عندي بتصوّرات جديدة لأشرح فكرتي حول "هدم القوالب" كما تقول المعادلةُ الثالثة، موضوع المقال.
لو تصوّرنا أن شخصًا من أولئك الأشخاص قد نجح في كسر القيود والسلاسل وخرج من الكهف المظلم، وشاهد ضوءَ الشمس لأول مرة في حياته. هذا الشخص سوف تضرب عينيه أشعةُ الشمس المتوهجة، التي يراها للمرة الأولى، فيُصابُ بصدمة بصرية ويضربه العمى اللحظيّ، ثم تعتادُ عيناه على الضوء الطبيعي، فتبدأ الرؤية في الوضوح شيئًا فشيئًا حتى يُصبح شخصًا مستنيرًا، يعيش خارج الكهف المظلم. سوف يكتشف ذلك المستنيرُ بعد برهة أن ما ظلَّ يراه هو ورفاقُ الكهف طوال أعمارهم ليست إلا ظلالا وهمية، وأن الحقيقة شيءٌ آخرُ تمامًا. هنا يبدأ ذلك الشخص في معرفة ما يُسمّى بـ "التفكير خارج الصندوق"، وهو عدم الاستسلام للفرضيات المغلوطة مهما عشّشت داخل عقولنا سنوات وعهودًا. أظنّ أن هذا الشخص لو كان كريمًا نبيلاً، سوف يعود للكهف ويحاول تبصرة رفاقه القدامى بما يجهلون. وأغلب الظنّ أنهم سوف يرمونه بالجنون والكفر، وربما حاولوا قتله. لكنه في النهاية نجح في هدم الأسطورة وبدأ في التحليق في عالم الحقيقة، أو على الأقل محاولة الوصول إليها بعقله.

أما المثال الشخصي الذي حدث معي فكان في ميعة صباي وأنا طالبة في المرحلة الثانوية. قرّرت مَدرستي أن تجمع الطلاب المتميزين من جميع الفصول في حصة أسبوعية تُسمى: How to Make a Scientist أي: (صناعة عاِلم). كانت فكرةُ المدرسة هي مساعدة النابهين والمتفوقين والأذكياء من التلاميذ على قطع أشواط أبعد من المناهج التعليمية المقررة، والتحليق في فضاء الابتكار، عسى من بيننا يخرجُ عالمٌ أو أديبٌ أو مفكّرٌ أو فنانٌ. وأذكر أن أول عبارة كتبها الأستاذُ على السبورة كانت: “Never Take Anything For Granted”، أي: (اهدمْ المُسلَّمات). والعبارة تلك نفسها قيلت لنا بعد سنوات في محاضرات كلية الهندسة بتعبير آخر. حيث قال لنا بروفيسور العمارة: "نحن نشرح لكم النظريةَ اليومَ، حتى تنسوها غدًا. فالنظريات تتبدّل كلّ يوم والعلم يتغير على مدار الساعة. لهذا لا نريدكم أن تحفظوا، نريدكم فقط أن تُفكّروا. فكّروا دائمًا، وتشكّكوا دائمًا، واهدموا القوالب الجاهزة".

لو استسلم السجينُ الهاربُ لنظرية الكهف والظلال، لما نجح في أن يخرج للحياة ويرى ضوءَ الشمس والبشر والجبال والأنهار وما سمع صوت العصافير وهزيم الرياح وحفيف أوراق الشجر وخرير مياه الجداول، ولظلّ أسيرَ وهم الظلام وأسطورة الكهف بقية حياته مثل بقية السجناء التعساء. لكنه فكّر فكسر أغلاله وانطلق إلى رحاب الطبيعة الساحرة. وكذلك لو استسلم جاليليو إلى نظرية أرسطو الخاطئة التي تزعم أن الأجسام الأثقل تسقط بالجاذبية بسرعة أكبر من الأجسام الأخف، لما كان علم الفيزياء ونظرية الكم. لكن جاليليو فكّر وحطم نظرية أرسطو الخاطئة، فكشف من خبايا العلوم ما أفاد الحياة. ونحن كذلك علينا أن نخرج من الكهف، ونفكّر خارج الصندوق حتى نتعلم ونعلو. تلك هي معادلتي الثالثة: هدمُ القوالب الجاهزة = بناء
وفي مرات قادمة سأناقش معكم معادلات جديدة تساعدنا على تشييد بناءات بوسعنا أن نبنيها على أطلال هدم أخرى ترسّبت طبقاتُها على جدران عقولنا.
***