الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو والطاهي التركي نُصرت جوكشيه . (أرشيف)
الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو والطاهي التركي نُصرت جوكشيه . (أرشيف)
الجمعة 21 سبتمبر 2018 / 20:19

نُصرت

حين انتهى مادورو من التهام ما يعادل طفلاً فنزويلياً من الطبقة الاجتماعية المتوسطة، عانق صديقه الصدوق، قائلاً: "سأراكَ قريباً في كاراكاس"

للمرة الأولى، أستطيع القول إني أفهم الجلبة التي يثيرها الطاهي التركي نُصرت جوكشيه، والذي أزعم بأني كنت سأسبقه إلى طريقته الشهيرة في رشّ الملح لولا لطمة تأديبية خاطفة من الوالدة –حفظها الله-.

يبدو أن نُصرت "وقع ومحدش سمّى عليه" حين نشر مقطعاً مصوراً لاستقباله للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في مطعمه الكائن في إسطنبول.

فبينما يكتفي الفنزويليون بوجبة في اليوم، وتشكو معظم مستشفيات البلاد شحاً في حليب الأطفال الصناعي، ظهر نُصرت وهو يضع مريلة حول عنق مادورو، والذي راح بدوره يحدّ أنيابه لتناول وجبة لا يحلم بها أبناء وطنه، ولا سيما أنه قد فتح شهيته جيداً بسيغار فاخر يتدلدل من شفته السفلى.

وحين انتهى مادورو من التهام ما يعادل طفلاً فنزويلياً من الطبقة الاجتماعية المتوسطة، عانق صديقه الصدوق، قائلاً: "سأراكَ قريباً في كاراكاس". والله وحده يعلم أي قطط الشوارع السائبة سيطبخها نُصرت في العاصمة الأمريكية الجنوبية الموبوءة.

بالطبع، لقد شعرت بالقليل من التعاطف مع الطاهي حين راحت الحشود تتجمع أمام الفرع الآخر لمطعمه في مدينة ميامي، لترفع لافتات تتهمه بمجاملة الديكتاتوريين والطغاة، وتطالبه بالاعتذار الفوري إلى الشعوب المسحوقة، فقد شعروا وأن "سولت باي" -كما يُلقب- قد نثر ملحاً من نوع خاص على جراحهم الغائرة.

فقد يكون نُصرت أحمق، جاهلاً، قليل وعي، غير مكترث، كسولاً، غافلاً، ساذجاً. ولكن من يرى اللافتات، ويسمع الهتافات، يخال إليه، وإن الطاهي المسكين هو من أهدر أكبر احتياطي من النفط في العالم بإحدى حركاته الاستعراضية السخيفة.

العالم محتقن إذاً. بل هو قد تعدّى مرحلة الاحتقان، وتحوّل من "ميديوم رير" إلى متفحم، قاس، غير صالح للاستهلاك. عالمنا بات ضاراً، حتى لأولئك الأبرياء نسبياً، والذين لم يسلّكوا أسنانهم من بواقي الإجرام والظلم. ففي نهاية المطاف، لم يقترف نُصرت ذنباً سوى أنه خدم أحد زبائن مطعمه، بغض النظر عن هوية الزبون المثيرة للجدل.

للأسف، لا أجيد رش البهارات لتلطيف هذا المشهد العصيب، ناهيك عن التظاهر بتقبّله وتبريره. فالجموع الغاضبة ليست عادلة دائماً في شن هجماتها الشرسة باسم الحق، وليست منصفة بالضرورة فيمن تفرض عليهم التراجع خوفاً وحذراً منها، على غرار "سولت باي" حين مسح المقطع المصوّر، ونفذ بشعره المعقود مثل ذيل الحصان.

ولكن كل ما بت أتعجّب منه في ظل حالة الغليان العالمية هذه هي أن أرى من مشاهيرنا العرب أضعافاً مضاعفة من الاستهتار والاستفزاز وانعدام الإحساس وضعف الوعي.

ولن أجد مثالاً أبلغ عما حدث مؤخراً. ففي خضم حملة "مي تو" العالمية الهادفة إلى كسر حاجز الصمت المحيط بضحايا التحرش والاغتصاب، وجدنا فنانينا يشذون عن القاعدة، ويكسرون حاجز الصمت تطوّعاً ومبادرة منهم للدفاع عن زميلهم المُتهم سعد لمجرد!

هل أمن هؤلاء ألا ننفجر في وجوههم يوماً، وألا ننهشهم قهراً وسُعاراً؟