الثلاثاء 15 أبريل 2014 / 14:26

خطوات الشيطان في أسوان


عرفنا من بيان الأزهر بشأن أسوان، في أقصى جنوب مصر، أن المصالحة بين العائلات المتقاتلة هناك ستتم على أساس من “قيمنا العربية والإسلامية”. والمقصود طبعا القيم المتوارثة التي تحل خلافات كتلك عن طريق الوساطة، والتحكيم، والمجالس العرفية، وولاية الدم، والتي تقضي بأحكام تشمل الدية، أو تقديم الكفن (رفع الراية البيضاء والرضا بحكم الخصم عليك مهما كان). وهي قيم لم نرثها نحن فقط، بل ورثها الإسلام نفسه من العشائر العربية، وأبقى على مفهومها للعدل، وحصنه من الانتقاد. فصرنا نكتفي بإضافة صفتي العربية والإسلامية إلى القيم كـ “علامة جودة”، دون أن نتفكر ما هي هذه القيم.

هذه القيم “القانونية” التي يبشرنا بيان الأزهر أنها ستحل المشكلة تشمل في المنظومة نفسها التمييزَ قانونا، وقصاصا، بين الحر والعبد، وبين المسلم (بديلا عن العربي الشريف) وغيره. كثير من المسلمين المعاصرين لا يصدق أن المنظومة القانونية الإسلامية تشتمل على هذا، لسبب بسيط، أن الحداثة ألغت الرق، فلم نعد نر حولنا قواعد أحكام الرق مطبقة في المحاكم، ولأن القوانين الوضعية ساوت بين المواطنين، فلم نعد نر أحكام “لا يقتل مسلم بكافر”. لكننا نتقبل في المنظومة ما لا يزال يعيش بيننا من أحكامها، كالتمييز بين الرجل والمرأة، بداية من أهليتها للشهادة، وصولا إلى حقها في الميراث. سيأتي يوم يتعجب فيه أبناؤنا أننا ظللنا حتى القرن الواحد والعشرين نعامل المرأة بهذا التمييز، تماما كما نتعجب نحن من أحكام الرق، وأحكام غير المسلمين، في ظل الشريعة الإسلامية، التي كان أجدادنا حتى زمن قريب يتعاملون بها. كل هذا بقي متأخرا عن التطور الإنساني في العالم من حولنا لأنه ظل محميا بعبارة “قيمنا العربية والإسلامية”.

على نفس المنوال، فإن الاعتقاد الراسخ بأن القصاص هو الصورة الأعلى للعدل لم يكن ليبقى لولا أنه محكوم بقاعدة “أولياء الدم”، الذين يلحقهم العار إن لم يقتلوا فردا من العائلة التي ينتمي إليها قاتل فرد من عائلتهم، والذين من حقهم أن يعفوا عن القاتل لو أرادوا ذلك. من أين جاءت تلك القيم؟ جاءت من القيم “العربية الإسلامية”، التي كانت وستكون سببا في كثير من الظلم الاجتماعي، ومسؤولة عن تقديم شرعية لأفعال الشقاق الطائفي، بل والشقاق بين المسلمين أنفسهم كما رأينا في الدعاية المواكبة لاقتتال دارفور حديثا، وفي العداوة بين بني هاشم وبني أمية في الفصل الافتتاحي للتاريخ الإسلامي، والمحمولة زمنا إلى يومنا هذا. هذا لو تفكرنا فيها بمنطقية، وتجرد، يتجاوز رهبة الصفة التي نلحقها بها.

لقد كان ما حدث في أسوان مثالاً واضحا، مصغراً، متبلوراً، لما يحدث في مجتمعنا الكبير. هذا المجتمع لا يضع احتمالا واحدا مخالفا لقناعاته المعلنة، المروَّج لها. وبالتالي لا يدرك أن كسله عن التجديد، وتمسكه بـ “القيم العربية والإسلامية” على شكلها القديم هذا هو السبب الأساسي لسعيه المتكرر إلى حل الصراعات بمنطق القتال الحق، وأخذ القانون باليد. وأنه طالما ترك هذه القيم مقدسة على صورتها القديمة دون مراجعة فسوف يظل يتناولها على أنها الدواء، بينما هي الداء، ومزيد من الداء، فمزيد من الداء..

المجتمع يتوارث قيمه القديمة “المقدسة” دون أن يحاول التفكير في علاقتها بزمنها، وعلاقتها بأدوات البحث الجنائي المتوفرة في ذلك الوقت، وعلاقتها بالتنظيم الاجتماعي المعتمد لذلك الوقت، وعلاقتها بالتطور القانوني والسياسي وطريقة إدارة الدول “الممكنة” في ذلك الوقت، وعلاقتها بفهم دوافع النفس الإنسانية وفهم الصحة الذهنية. وحين يطبق هذه القيم على أرض الواقع المعاصر يفعل ذلك دون أي قدر من وخز الضمير، مهما كان الفعل الناتج عنها سيئاً، ومذموماً للذائقة الإنسانية المعاصرة، وللمنطق. ومن يعش في الصعيد يدرك أن القتل في تلك الظروف - مثلا - مجال للتفاخر وليس للإحساس بالعار. مجال للتفاخر لأنه ببساطة متوافق مع “الحلال والحرام” حسب ما يفهمونه، مع الرجولة، مع “شرف العائلة”، متوافق مع القصاص، وولاية الدم. أما الإحساس بالعار فينبثق عادة من الأفعال التي توحي بأن العائلة “مش مسيطرة”، سواء على بناتها أو على جيرانها.

عرفنا من بيان الأزهر الأخير إذن أن المصالحة ستتم على أساس من “قيمنا العربية والإسلامية”، لكننا لم نعرف على أي أساس كان الاقتتال. نعرف هذا من البيان السابق، الذي أصدره فور اندلاع الأحداث، والذي طالب فيه بـ “الابتعاد عن خطوات الشيطان”. على أساس أن “خطوات الشيطان” هي اللي التي أوقعت بين المتناحرين. هذه وحدها جملة كاشفة، تؤكد للمتشككين إلى أي حد نحن بعيدون عن إدراك الأسباب الحقيقية ومعالجتها علاجا واقعيا منطقيا. إنما - كما تعلمين - ليس هذا مهما أبداً. ليس هذا مهماً. المهم القلب الأبيض.