الأربعاء 30 أبريل 2014 / 08:45

‫وعلى المقيمين مراعاة فروق التوقيت‬


عندك مشوار في الصباح الباكر؟ ‬

ستجلسين مع أصدقائك، أو تجلس مع صديقاتك، وسيقول شخص منهم: "رزق أمتي في بواكيرها". الجملة حديث نبوي. لكنها تستخدم مثل غيرها من عبارات المجاملات الاجتماعية، مثلها مثل "العوض على الله" أو "النبي وصى على سابع جار". مجرد كلام يضاف للتأكيد. لا ينعكس في أي تصرفات أخرى. يذكرني هذا بقصة لا أمل من تكرارها، حكاها الروائي المصري ياسر عبد اللطيف. كان يسير في المعادي ورأى جندياً من جنود الأمن المركزي يشعل حطبا عند جذع شجرة، فقال له: "يا أخي حرام عليك، الشجرة هتتحرق كده". فما كان رد الجندي إلا "عندك حق. الشجر سُنَّة" !!! كلمة أخرى لا معنى لها، إنما يقحم الدين فيها إقحاماً، وكأن الشجر، وعمره ٣٨٠ مليون سنة، لم يظهر قبل البعثة. ‬

أما لو كنت ممن يبدؤون يومهم في "البواكير" بحكم عملك أو دراستك، فهنا تكتشفين الحقيقة المرة. قد تبحثين في خزانة ملابسك فتكتشفين أن بعضها يحتاج إلى كيّ. تودين لو أخذت معك هذه الملابس لكي تسلميها إلى المكوجي، أو أن تشتري قلماً لإنجاز أشياء على الطريق، أو بطارية لتشغيل جهاز، أو حتى باكو مناديل ورقية، لكنك لا تجدين في الشوارع محلاً مفتوح الأبواب. أما الصنايعية فعملهم لا يبدأ قبل العصر. أين "المبكرون" بين الباحثين عن الكسب؟ ليسوا موجودين. ‬

المكوجي المتدين يفتح محله بعد الانتهاء من صلاة الظهر في المسجد، حوالي الواحدة ظهراً. ‬والبقال الشاب الملتحي يفتح محله في العاشرة تقريباً، بعد أن ذهب الطلاب إلى المدرسة والموظفون إلى مكاتبهم. أما أن تجدي كهربائياً أو سباكاً ليصلحا عطلاً طارئاً فهذا رابع المستحيلات. لكن أمثال هؤلاء هم الذين ينشرون مقولات مثل "رزق أمتي في بواكيرها"، ثم لا يعملون بها.

التناقض البيئي، بين المقتدين والمقتدى به، والتناقض الزمني، بين مصدر المعرفة والباحثين عنها، أنتج في أبسط صوره، فرق الساعات الثماني، بين بواكيرنا وبواكيرهم، وبالتالي بين إنتاج يومنا وإنتاج يومهم، وبين استهلاك الطاقة في يومنا واستهلاك الطاقة في يومهم. هذا في أبسط صوره، كل هذه الفروق مجرد مظهر واحد من مظاهر الطريقة التي نفكر بها، ونستقي منها معرفتنا. من الناصحة إلى المكوجي إلى جندي الأمن المركزي الذي فهم أنه يجب ألا يحرق الشجرة، لسبب وحيد، أن الشجرة سنة.

هكذا يراد لنا أن نقتنع بالاستيقاظ مبكراً، وهكذا يراد لنا أن نقتنع بحسن معاملة الجار، وهكذا يراد لنا أن نقتنع بما لا يحتاج إلى استدلال، ولا فتوى، ولا مقولة دينية. أن يكون "النص" مناط "الاقتناع" الوحيد. والنتيجة أن الشعب المتدين بطبعه صار يمارس عكس ما يقول، ثم يقول ويعيد ويزيد، ثم يمارس عكس ما يقول، ثم يقول ويعيد ويزيد، حتى يصير الموضوع مضحكاً. هذا ما نسميه الابتذال. المتحرش يردد مقولات العفة، والمرتشي يردد مقولات الأمانة، والصنايعي الفاشل لا يتوقف عن ترديد "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"، ثم تبحثين عن هذا العمل المتقن بطول البلاد وعرضها فلا تجدين منه شيئاً. هل تريدين عملاً متقناً؟ اذهبي إلى بلاد "الكفار".

ستجدين المحلات التجارية الكبرى تفتح في تمام التاسعة أو العاشرة. البقالون ستجدينهم في أي وقت، وبالتأكيد وقت ذهابك إلى عملك بداية من السادسة صباحاً. من العادي جدا أن تعطي سباكاً موعداً في الثامنة أو التاسعة صباحاً. كل هذا بلا مقولات محفوظة، ولا نصائح وتمتمات شفاه عمال على بطال. الدافع الوحيد هو الإنجاز، الكسب، من يتكاسل يدفع الثمن. لقد تعلموا أن اختيارك دافعه تحقيق قدر أكبر من الكسب في الدنيا، وهذا دافع حقيقي ملموس.

لقد تحرروا من سلطة التوجيهات المسبقة. استجابوا للحاجة، وللبيئة، وللتغير. صار المجتمع يعرف بديهية البديهيات: "اعمل اللي بينفعك". لم يعد يعيش في زجزاج بين ما يفعل وما يجب - في اعتقاده الديني - أن يفعل. لم يعد يرضي نفسه بالأقوال، ويتباهى بالأقوال، ثم يمضي هانئاً مطمئناً. هذه وحدها ميزة عظيمة للتفكير العملي. أن يتوقف الأفراد عن النصح والإرشاد وترديد المقولات، ويركزوا على ما يفعلون، وعلى اختياره بالمنطق.