الجمعة 27 يونيو 2014 / 21:14

سمك النهر المتعب


كان صوت "الدجوي" رطباً، مثل وحل الشاطئ يعيش على مركبه في النيل منذ 30 عاماً، ورث الصيد، وإن لم يرث بركة زمان.

يبدأ يوم الدجوي في السادسة صباحاً، حيث يلملم شباكاُ نصبها قبل ساعات، وبعد جني سمكاته يقضي نهاره في غزل الشباك وإصلاحها ثم إعادة فردها قبل أن يخلد للنوم في العاشرة على أقصى تقدير.

7 أبناء تزوج منهم بنتان وبقي معه ثلاث بنات صغيرات وطفل في السابعة، وآخر في منتصف العشرين، هم حصيلة النصر في معركته الثانية مع الحياة، بعد خسارته المؤلمة في الجولة الأولى، عندما استيقظ في السادسة صباح اليوم الأول من أغسطس (آب) عام 1981، وبينما هو يجمع شباكه، غرز الهلب وانقلب المركب، ومعه زوجة ورضيعة وابن عمره أربع سنوات، صرخ ولم يسمعه أحد، وحينما قبض بكفيه، كانت الحصيلة حفنة من مياه النيل سرعان ما هربت.

خرجت الجثث تباعاً، ومعها كل أمل في المستقبل، وكادت بذور الجنون أن تطرح في رأسه لعامين، لكن جرعة صبر أعادته للحياة، فانتقم من الموت بكوم لحم آخر.

"وكوم اللحم" نالوا نصيبهم، من الشقاء، فلا تلفزيون ولا لعب ولا مدارس، ولا اختلاط إلا بأولاد الصيادين، وحين يهم أحدهم أن يغسل وجهه، لا يجد إلا النيل قاتل أخيه، وطاعن أبيه.

تحايل الدجوي على الروتين، فسجل أولاده على عناوين أقاربه في المنوفية، كي يستخرج لهم وثائق رسمية.

لفترة عمل الدجوي لفترة "ريس بحري" على يخت في منتجع مارينا نظير ألف جنيه شهرياً، ولكنه لم يتمكن من الاستمرار في العمل لبعده عن أسرته وتركها في النيل، وفشل في الالتحاق بعمل مماثل في القاهرة.

للفرح القليل طقوس يحرص عليها الدجوي، فبحصيلة بسيطة من المال يأخذ أولاده ليشتري لهم ملابس جديدة، من محال رخيصة في الأعياد، ثم يذهب لصديقه عصام "المكوجي" بالجيزة ليسترد جلبابه المخصص للمناسبات، ويسافرون جميعاً إلى المنوفية حيث الأقارب والونس بلقائهم.

ثلاثون عاماً من مناجاة العراء، قضاها الدجوي، وحين اقترب حلمه في الستر، مع "فضائية" بتوفير شقة للعائلة، اكتشف أنه سراب دعائي، وحين سألته كيف، ينجب في العراء، والعائلة كلها مكدسة في موكبين قال ساخراً: لدي غرفة نوم شاسعة تمتد من الإسكندرية لأسوان، طول النهر في مصر.