الإثنين 16 يونيو 2014 / 14:52

الهوية والخدمة الوطنية في فكر الشيخ زايد


"إن طريق الجندية شاق وطويل لا يبلغ منتهاه إلا الرجال المؤمنون بربهم وبقدسية ثرى وطنهم” 
(الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان)

 (1)
ليس من المبالغة في شيء أن يقال إنّ المنطقة التي تتشكل منها دولتنا، دولة الإمارات العربية المتحدة، كانت تشهد في كثير من مراحلها التاريخية، لوناً من الاتحاد، وهو أمر طبيعي، حيث يجمع الناس فيها وحدة تاريخية وتراث مشترك ووحدة دينية ومقومات جغرافية ولغة عربية ظلت على الدوام حاضنة للفكر والإبداع تعبر عن هوية مركّبة تقوم على التنوع في إطار الوحدة.

ويسترعي انتباه الباحثين أنّ القبائل في هذه المنطقة بدأت منذ القدم بالترابط والتجمع وأنّ هذا التجمع أدى إلى نشوء روابط من التضامن السياسي والمصالح المشتركة، فضلاً عن روابط القرابة .

لكنّ ذلك كله كان محتاجاً إلى الزعيم التاريخي القادر على تحويل العلاقة من اتحاد بالقوة، كما يقول أصحاب المنطق، إلى اتحاد بالفعل، وإيجاد ركائز للهوية الوطنية وتكريس قيم الولاء والانتماء لوطن واحد موحّد. وهو ما تجلى بوضوح في شخصية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي تحلى ببصيرة القائد القادر على صنع التحولات الكبرى، وهو الذي ظلّ يقول: "مثلما يولد الفجر من الظلمة، يولد النصر".

لا حاجة إلى الخوض مطولاً في مفهوم الهوية بالمعنى الفلسفي، فالهوية مفهوم بينيّ مركبّ يلتقي في تعريفها علم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس وعلم الانثروبولوجيا وعلم السياسة، يضاف إلى ذلك أنها تنطوي على التقاطع الموجود بين الذاتي والجماعي وبين الواحد والمتعدد وبين الثابت والمتغير وبين الاتصال والانفصال.

وقد روى أحد الباحثين العرب (عبد الفتاح كليطو في كتابه : الكتابة والتناسخ : 1992) حكاية دالة توضح أبعاد الهوية وارتباطها بالوطن. فقد حكى عن شخص تاه عن منازل أهله في صحراء قاحلة وافتقد كلّ أثر يمكن أن يقوده إلى تلك المنازل. يقوم ذلك التائه بجهود مضنية للبحث عن طريق العودة، لكن الصحراء المقفرة تخفي كل أثر أو معالم. تتعدد المحاولات وتتكرر لكنها تنتهي إلى الفشل. بعد تفكير طويل يهتدي هذا الشخص إلى تقليد أصوات كلاب القبيلة أملاً في أن ترد عليه للاهتداء إلى موطنه. للعودة إلى موطن وجوده لكن تلك الحيلة نفسها تعترضها عوائق من قبيل وجود كلاب أخرى ضالة.

تثير هذه الحكاية سؤالاً وجودياً: لماذا هذا الإصرار على العودة إلى الوطن ولو عبر تقليد أصوات غير بشرية؟

كان الشاعر العربي يقول، في وصف موطنه:

بلادٌ بها نيطت عليَّ تمائمي وأول أرضٍ مس جلدي ترابها

ولو أننا القينا نظرة على المعاجم المختصة، لوجدناها تمنح الهوية ثلاث خصائص هي الاستمرارية والتطابق والمماثلة فتصبح الهوية مجموعة من الميزات الثابتة والمكونة من خصائص الشيء أو الشخص، التي تشتمل على الصفات الجوهرية الثابتة المميزة له والتي تمنحه التفرد والخصوصية، وتحدد في الوقت نفسه صورة الشخص عن ذاته والصورة التي يحملها عن نفسه وتقود إلى إدراكه لذاته كموضوع في إطار علاقاته مع الآخر.

ومن هذا المنطلق كان من الطبيعي أن تقوم الهوية في مجتمع الإمارات العربية المتحدة على تلك الأسس الثلاثة: التطابق والمماثلة والاستمرارية. وإن تفضي تلك الأسس إلى بناء هوية تكرس قيم الانتماء والولاء وتقوم عليها.

وقد كان المغفور له، بإذن الله، الشيخ زايد وهو يؤسس لهذه الدولة يدرك أنه يصوغ عقداً اجتماعياً جديداً يسعى لضمان الأمن والعدل والتكافؤ حتى يترقرق نهر التقدم في ربوعها وحتى يتمكن الإنسان الإماراتي من بناء حياة جديدة في هذا المكان العابق بالتاريخ والمحبة والمعاناة المشتركة والحلم الواحد بالنهوض.

(2)
وبالعودة إلى رؤية باني الإمارات، نجد أن الشيخ زايد نجح في الانتقال بالمجتمع الإماراتي من التعاضد الاجتماعي الذي ترتكز عليه القبيلة في وحدتها، إلى فكرة المواطنة.

والمواطنة حقوق وواجبات، فمثلما تقدم الدولة الحقوق، يؤدي المواطن ما عليه من واجبات. وقد تحدث علماء الاجتماع في هذا السياق عن المواطن الفعال وهو المواطن الذي ينتمي لوطنه ويدافع عن ثراه و يسهم في رفع مستواه الحضاري .

وهنا نجد أهمية قانون الخدمة الوطنية الذي كان وليد الرؤية الحكيمة لصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، ولعلها من الأمثلة المضيئة التي تلتقي فيها رؤية الحاكم مع تطلعات الإماراتيين، حيث أن تطور الدولة والمجتمع وتطور مفهوم الهوية، جعل من هذه الخطوة أمراً بديهيا، فاستقبله الشباب، وهم المعنيون بالأمر قبل سواهم، بلهفة وسعادة، إذ شعروا أنهم باتت لهم فرصة أكبر للمساهمة في بناء الوطن، وإذا أضفنا إلى ذلك التحديات الكبيرة التي تعصف بعالمنا على النحو الذي نراه، لوجدنا أن الهوية بكل أبعادها وكافة معانيها هي أكثر ما نحتاجُ إليه في هذا السياق. فقد ارتقينا وأنجزنا من خلال التمسك بالهوية، ولن نحافظ على ما أنجز دون المزيد من التشبث بالهوية الوطنية، مصدر قوتنا وثباتنا ووحدتنا. وقد رأينا خلال السنوات القليلة الماضية وعبر ما شهدته منطقتنا من أحداث جسام كيف تجلت مفاهيم الهوية الإماراتية وكيف مورست وتعددت آفاقها، ذلك أن الهوية الوطنية في العالم الذي نعيش فيه لا تعني الانغلاق والتشدد بل الانفتاح والانخراط في التفاعل مع القيم العربية والعالمية، وذلك لا يضرها في شيء بل يحصنها، فالهوية تعرف ذاتها عن طريق الاختلاف.

والمتابع لإنجازات الشيخ زايد ورؤيته، يدرك أنّ الهوية في تصوره لم تكن أحادية الجانب، ففي الهوية عناصر ثابتة وأخرى قابلة للتغير. بمعنى أنّ الهوية قادرة على أن تجمع بين الذاكرة الجمعية بما تنطوي عليه من رموز ومعطيات وأبطال، وهم الذين يصنعون هذا الشعور الجماعي بالوطن وضرورة الدفاع عنه حتى يظل كريماً، وقادراً على استيعاب الواقع الحضاري الراهن ومعطياته المختلفة.

لهذا فإننا عندما نتحدث في دولة الإمارات العربية المتحدة عن الهوية، لا نتحدث عن بنية مغلقة، بل عن بنية دينامية متحولة، نشارك في صنعها والدفاع عنها.

إنّ مرتكزات الهوية كما تبدو في أحاديث القائد المؤسس ترتكز على الأسس التالية:

أولاً: المكون التراثي : ظل الشيخ زايد شديد الإعجاب بمنجزات أسلافه , كثير الثناء عليهم وحريصاً على أن لا يفضي التقدم إلى قطيعة معرفية مع الجذور . ولم يكن رحمه الله يفصل بين الموروث المحلي والعربي عموماً . فقد كان الشيخ زايد شديد الوعي بالقواسم المشتركة بين القبائل العربية و ويعرف دورها قبل الإسلام وبعده. مثلما كان حريصاً على تعظيم القواسم المشتركة بين أبناء هذه القبائل.

ثانياً: المكون الإنساني: كان الشيخ زايد. شأنه شأن أي قائد تاريخي، يصدر عن نظرة تقوم في أساسها على احترام الإنسان لذاته، بصرف النظر عن دينه أو لونه أو عرقه.

ثالثاً: المكون الحديث: لقد حرص الشيخ زايد، رحمه الله، مثلما يحرص صاحب سمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة –حفظه الله- على بناء المعلم الحديث للدولة التي يتوافر فيها التعليم الحديث والتقنية المعاصرة في شتى جوانب الحياة , والحركة العمرانية القوية وشبكة المواصلات الحديثة والجامعات والمستشفيات . وهذا المعلم هو ما يمنح الدولة طابع الدولة الحديثة التي توفر لأبنائها سبل الحياة الكريمة، مما يجعل ولاءهم لها أمراً طبيعياً، لأن الحفاظ على هذه المكتسبات يتطلب أن نبذل الغالي والنفيس والمهج والأرواح فنصون كرامة هذا الوطن والذود عن حياضه.

وقد ظل الشيخ زايد يردد:

“يا أبناء الإمارات العربية المتحدة، إنّ الأوطان لا تبنى بالتمنيات والآمال ولا تتحقق بالأحلام".

والانتماء للوطن، هو بمثابة الضمير الذي يوجه المواطن لمصلحة الوطن ويحميه من الانحراف والفساد والتخريب والإرهاب. وتعتمد صلابة أي مجتمع على مدى انتماء مواطنيه له وحبهم له. أما الولاء فيجمع بين الولاء للنظام السياسي الذي يحفظ البلاد ويصون كرامتها ويحقق المصلحة العامة ويحافظ على حقوق المواطن. وبين الولاء للمكان وهو ما يتجلى في أنبل مظاهره عند أبناء القوات المسلحة، في حب الوطن والدفاع عنه وصون منجزاته. وهنا تتجلى ميزات قانون الخدمة الوطنية في تعميقه لهذه الروح النبيلة. أما الولاء الثالث فهو الولاء للشعب والمواطنين من خلال الحرص على العيش المشترك والوحدة والحوار والاعتزاز بالتقاليد.

(3)
لقد عرف الشريف الجرجاني الهوية في كتابه المسمى " التعريفات" فقال إنها :

"الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النُّواة على الشجرة في الغيب المطلق".

وهو تعريف يوضحه تماماً ما استطاعت دولة الإمارات العربية المتحدة أن تنجزه. فتحوُّلُ النواة التي تشتمل على الحقيقة المطلقة إلى شجرة، يشير إلى تحول المجرد إلى مجسّد أو مشخّص، وعندها تغدو المجردات والمطلقات وقائع مرئية وسلوكا قابلاً للإدراك يمكن الإمساك به والحكم عليه.

والتحول من التجريد إلى التجسيد لا يتم إلا من خلال الاعتماد على الركائز الوطنية للهوية، فهذا الذي قام به الشيخ زايد، رحمه الله رحمة واسعة، تأويل لاستعارة الجرجاني التصويرية بخصوص النواة التي تشتمل على الشجرة.

• ورقة شارك بها رئيس تحرير 24 د. علي بن تميم، اليوم الإثنين، في ندوة بعنوان "قانون الخدمة الوطنية وتعزيز الهوية" نظمتها هيئة الخدمة الوطنية والاحتياطية التابعة للقيادة العامة للقوات المسلحة في الإمارات.