الإثنين 25 نوفمبر 2013 / 20:25

الزم الباب إن عشقت الجمال

"أنت في الدار البيضاء" قلتها لنفسي لأمسك بقوة بتلك اللحظة التي نادراً ما يصادفها أحد في رحلة سفر بعيد عن بلده، قد تحجبه الأضواء والمتع عن لحظة النور التي يكبر فيها القلب لدرجة أن تنمو على جانبيه شعيرات بيضاء، لأن كل ذرة في جسده تشعر بأنه يقف الآن على نقطة أخرى في الكوكب بحسابات جديدة، بوجوه مختلفة، بقواعد مجهولة، بانفصال تام عن دائرة التشويش التقليدية التي تعيش فيها.

أنت الآن في لحظة قرب من الله، فلا أحد يعرفك في هذه النقطة غيره، تمام الغربة عن البشر الذين يشبهونك ويقيدونك بقوانينهم هو تمام التفرد، وتذوق أن تجربة الحياة مهما طالت ستصفصف عليك أنت لوحدك في النهاية.

لحظة نور.. محظوظ من يستشعرها في سفره، لا تبحث عنها ولا تحاول أن تتدرب عليها، فقط اترك الرادار مفتوحاً وهى ستعرف طريقها وقتما تشاء، تذوقت هذه اللحظة بينما أعاني آلاماً لا تطاق، والسبب أن المغرب لا تعرف اختراع "الشطاف"، وهى مأساة كل مصري مغترب، الشطاف الذى اعتاده الواحد في حياته كمساعد إخراج، تصبح الحياة بدونه فجأة مأساة.

ستقول لي بلاد بره لا تخلو من "البيديه" وهذا صحيحا لكنني كصعيدي أصلى لا أعرف كيف يجب أن أستقل البيديه، يعنى هل أجلس ووجهي للحائط أم أجلس و ظهري له، أم أجلس بزاوية منفرجة على ركبة و نصف؟، مأساة بالذات عندما تكون قوة اندفاع الماء الخارج منه ضعيفة لا تشبه قوة اندفاع الماء في شطافات بلادي (قوة تجعلك تمسك بالمحبس جيداً خوفاً من اندفاع مفاجئ، بالذات إذا أدرت المحبس قليلاً ولم يخرج الماء فتنتبه بشدة خوفاً من الغد)، غياب الشطاف يجعل العملية صعبة للغاية، والكارثة عندما تضغط على نفسك فيؤدى ذلك إلى جرح بسيط يطلق عليه الأطباء "الشرخ"، هذا الشرخ هو بروفة على الجحيم، تخيل أن باطن شفتك السفلى قد أصيب بجرح ما ثم نسيت و تناولت طعاماً "مشطشطاً"، سترقص من الألم، أضف إلى ذلك أن تشعر بسريان الكهرباء الخفيفة في أعصاب نصفك السفلى بأكمله.

مأساة تحملتها عدة أيام أثناء وجودي في مدينة "فاس"، لكن في "الدار البيضاء" كنت قد انهرت تماماً وقررت عدم الخروج من البانيو المليء بالماء الساخن حتى موعد طيارتي في اليوم التالي، لكنني خالفت القرار وقررت قبل نهاية اليوم أن أنزل للسوق لشراء بعض الهدايا للأقارب والأصدقاء، متمنياً أن يخفف الله هذه الآلام وهو يعلم أنى سأعاني في مشواري هذا لإسعاد الآخرين.

كانت الشمس لم تغب بعد والأمطار نصف قوية، يبعد السوق عشر دقائق سيراً على الأقدام، كانوا الأطول في حياتي. أمام بوابة السوق القديم توقفت الأمطار تماماً ثم بزغت الشمس بقوة وكأنها مصباح يتوهج قبل أن يحترق، وهبت رائحة هي خليط من عبق السوق القديم ونسمات المحيط الأطلنطي والطمى المغربي الذى تشبع بماء المطر، ثم جاء صوت آذان المغرب بلكنة أهل المغرب هادراً، سمعت قلبي يقول: "أنت في الدار البيضاء .. أنت فى الدار البيضاء" كان للجملة أنوار تشبه أنوار التسبيح، وقفت في مكاني وأغمضت عينيّ وقلت "الله"، قلتها وكأنها تخرج منى للمرة الأولى.

فتحت عيني وأنا أشعر أنني مقبل على ساعات من السحر الصافي، مع حلول الظلام تغلق محلات السوق أبوابها، لم أكن أعرف المعلومة فشاء القدر أن أتجول بمفردي في أزقة السوق وكأنني البطل الوحيد في هذا المشهد. كنت أشعر بونس يجرحه كل قليل تأنيب العودة إلى مصر بلا هدايا، قلت لنفسي: شيكولاته من السوق الحرة ستحل كل المشاكل.. ثم إني ماكنتش في إعارة يعنى، ظللت أتجول و أتنقل بين محطات مختلفة من الموسيقى والغناء كانت كل واحدة تطل من أحد شبابيك البيوت القديمة داخل السوق، إلى أن وصلت أمام محل وحيد مضاء وصاحبه يجلس أمامه يدخن ويشرب الشاي، نظر ل الرجل نظرة: "إنت إيه اللي أخرك؟"، ثم ابتسم فدلفت إلى محله المتواضع الذى يبيع الجلابيب المغربية الرجالى. حكيت له قصتي فطلب منى أن أنسى المحل و وأن أحدد طلباتي وهو سيوفرها لي. كانت لسعة البرد محببة إلى القلب، وكان الرجل بشوشاً، كان يعد لنا براد الشاي المغربي ويستمع إلى طلباتي، وضع في السماعات "فلاشة" عليها أغاني مديح نبوي مغربي وتركني في المحل ثم اختفى.

"أنت في الدار البيضاء" كان الصوت يختفى ثم يجيء بنوره من جديد، مددت يدى داخل فاترينة "السبح" وأخذت واحدة تشبه حباتها حبات الترمس، كنت أقلبها في يدى وأنا مندمج مع المديح الذى لم أميز منه سوى "الزم الباب إن عشقت الجمال.. واهجر النوم إن أردت الوصال"، ثم هلّ الرجل من بعيد وخلفه شاب صغير بنظارة يحملون بضاعة من مختلف المقاسات، عبايات حريمي وأحذية مغربي وقطع من الصابون المصنوع يدوياً بمختلف أنواع الزهور.

مرت ثلاث ساعات أصف للرجل مقاسات صاحب كل هدية، فلان قصير وكتفه نحيل لكنه صاحب كرش، وفلان ضخم ومتناسق ربما أطول منى قليلاً، كان الأقارب والأحباب حاضرين في المحل الصغير وكأن كل واحد يختبر هديته بنفسه قبل الشراء، كنت أسترجع كل واحد على حدة فكأنني أكتشفه من جديد، هناك في حياتي من لم أعرفهم جيداً إلا في هذه اللحظة، وهناك من اكتشفت أننى استطيع أن أخمن مقاس قدميه، هناك من يشبه هذا الجلباب اللامع المرح، وهناك من خلقت هذه العباءة الوقور من أجله.

نسيت الألم و لم يتوقف الشاي المغربي للحظة وكان المديح يعيد نفسه وبدأت الأمطار تهب من جديد، وجاءت لحظة الحساب فأعدنا أنا وصاحب المحل اكتشاف أنفسنا وعلاقتنا ببعضنا من جديد، قال لي المطلوب ثم استشعر في عيني توتر ما، هو يعرف أنني بلا خبرة في الأسعار وربما يراودني شعور أنني ضحية، الحقيقة أنني توترت من نظرات متبادلة بينه و بين الشاب، تبدل التوتر ابتساماَ عندما أخرج الشاب من جيبه كارنيه معهد الصحافة قائلاً إنه شاهدنى من قبل مع الإعلامي يسرى فودة لكنه لم يكن متأكداً.

صاحبني الشاب حاملاً الهدايا إلى الفندق يطلب النصيحة كصحفي محتمل، قال لي إن البائع خاله، وإنه كان نائما يحلم بأم كلثوم قبل أن يوقظه الخال للمرور على مخازن البضاعة في البيوت، قدمت له من النصائح ما يليق بشخص أرسلني القدر إليه في يوم ممطر. في الفندق كاد الصمت يشق زجاج الغرفة لولا أن كسرت حدته أصوات المطر، عاد الألم من جديد لكن بدرجة أقل، فنمت قبل أن يفسد على سعادتي، فحلمت بجنود يمسكون بخراطيم ماء ضخمة يفتتون بها خط بارليف بالطريقة نفسها التي أستخدم بها الشطاف.