الثلاثاء 7 أكتوبر 2014 / 22:24

السيادة وخصومها



وفّر الهجوم الذي شنته "جبهة النصرة" على مواقع "حزب الله" في جرود بلدة بريتال اللبنانية فرصة جديدة لاستعادة خطاب التعبئة والحشد المؤيدين للحزب وهذه المرة برفع شعارات تدعو إلى مساندته باعتباره يدافع عن السيادة وسلامة أراضي الوطن.

العملية في ظاهرها لا تزيد عن عمل تكتيكي من قبل مسلحي "النصرة" ضمن حرب العصابات التي تشنها الفصائل المسلحة السورية على مواقع نظام بشار الأسد وحلفائه. وجلي أنها باغتت "حزب الله" وضربته في مكان لم يتوقعه.

في رأي الواقفين وراء حملة التأييد الجديدة للحزب أن اختراق المسلحين السوريين للأراضي اللبنانية يمثل حالة نموذجية تكاد تكون مدرسية لانتهاك سيادة دولة مستقلة وأن على جميع اللبنانيين اليوم تناسي الخلافات السابقة والتوقف عن المهاترات والاندفاع الى دعم المدافعين عن التراب الوطني الذي يتعرض لاجتياح القوى الإرهابية، وفي مقدمتهم مقاتلي "حزب الله".

يريد أصحاب القول هذا تجاهل جملة من النقاط التي لا يستقيم اتخاذ موقف جدي قبل تفحصها. الأولى، تتعلق بمفهوم السيادة ذاته وتطبيقه في لبنان. يتعين الانتباه إلى أن جلسات كثيرة للحوار الوطني عُقدت بين 2006 و2012 رمت إلى وضع "استراتيجية دفاعية" تحدد كيفية ممارسة الدولة اللبنانية سيادتها على أراضيها بالتوازي مع وجود ما اصطلح على وصفه "سلاح المقاومة" أو بكلمات واضحة، وجود جيش ثان عالي التدريب والتسليح يأتمر بإمرة جهة تشارك في السلطة لكنها لا تضع الجيش الرديف بأمرة مؤسسات "العنف الشرعي" (الجيش والاجهزة الامنية). جلسات الحوار التي فشلت في علاج الازدواجية هذه، دليل صارخ على الوضع المعلق أو المؤجل للسيادة اللبنانية، في حين أن أبسط تعريفات السيادة تقول باكتمالها في يد سلطة واحدة.


النقطة الثانية، أن الدعوات السيادية المستجدة تتجاهل ما أصاب الحدود اللبنانية –السورية منذ بدء تدفق المسلحين اللبنانيين، من مختلف الاطراف والانتماءات، إلى سوريا للمشاركة في القتال هناك. ورغم رفع الحكومة السابقة شعار "النأي بالنفس" عن الانحياز إلى أي من خندقي الصراع السوري، طبقت الدولة اللبنانية عمليا سياسة غض النظر. فتدفق آلاف المقاتلين وغذوا الحرب الاهلية هناك وفاقموا من بشاعاتها. انتهكت الحدود المشتركة بكل شكل ولون يمكن تصورهما فدخلت أفواج من المقاتلين المسلحين وعادت مئات الجثث واحتل لبنانيون قرى سورية وتدخل الجيش السوري في عدد من البلدات اللبنانية، على نحو بات من الملح إعادة تعريف الحدود وموضعها. والأهم أن السيادة لا تُختصر بممارسة السلطة الحصرية على رقعة جغرافية معينة بل تتعدى ذلك إلى القدرة على الدفاع عنها من قبل السلطة ذاتها عندما تتعرض الى الخطر. وتعلمت الدول منذ مئات الاعوام أن الخروج بمشاريع فتح امبراطورية يفترض أولاً تأمين الجبهة الداخلية من أي اختراق محتمل.

النقطة الثالثة، استطراداً، هي أن من بادر إلى جرّ لبنان إلى المستنقع السوري، أطراف "أهلية" لا تمثل الإجماع الوطني اللبناني في خياراتها السياسية ولم تستشر، في أفضل الأحوال، غير قواعدها الحزبية والطائفية قبل التورط في القتال هناك. وليس على الدولة اللبنانية الاستجابة لضرورات المصالح التي حملت الأطراف تلك على أرسال مسلحيها إلى سوريا. بل الأقرب إلى منطق الدولة صاحبة السيادة هو إرغام تلك الجماعات، على تعدد مشاربها ونوازعها، على الانسحاب من سوريا وأن تتولى مؤسسة الجيش التابعة للدولة مهمة الدفاع عن الاراضي اللبنانية، سيان صدر التهديد عن جماعات إرهابية أو عن دول معادية.

الكلام أعلاه يبقى في الحدود النظرية المحض. ومعروفة الظروف السياسية التي تكبل عمل السلطات اللبنانية وتهدد بانهيارها وتعميم الفوضى المسلحة في البلاد. بيد أن الدعوات إلى ممارسة حقوق السيادة تستدعي أولاً استكمال السيادة بشروطها ومعطياتها كافة، وأولها الاعتراف بدولة واحدة وسلاح شرعي واحد.

وأقل ما يقال في الصخب "السيادي" الحالي أنه مسعى جديد ديماغوجي الطابع لاستغلال مفاهيم الدولة والسيادة والمجتمع من دون تحقيق الشروط الأدنى لقيامها.

وليس سراً أن مطلقي هذه الحملات لم يتوانوا على امتداد الازمة الوطنية منذ 2005، عن قول الشيء ونقيضه وقطع العهود والنكث بها عندما تتغير الظروف ووفقاً لما يستجد على الساحة الاقليمية وهذه، في أول المطاف وآخره، هي المكان الذي يجري فيه وعليه الصراع الحقيقي الذي يعني محبي السيادة في ربع الساعة الأخير قبل إسدال الستارة عن الواقع الحالي.