الخميس 6 نوفمبر 2014 / 21:25

الإسلام ليس أيديولوجيا ولا "براكسيس"



لفت مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان إلى أن الاسلام يمر "بمحنة كبرى" بسبب ظواهر الانقسام والتكفير والتقاتل باسمه، في واحدة من الإشارات القليلة على إدراك المؤسسة الدينية الرسمية خطر التحديات التي يتعرض لها الإسلام في العصر الحالي.

الكلمة التي ألقاها دريان في مستهل السنة الهجرية الجديدة، حملت همّين. الأول يتعلق بالدين وبمحاولات استغلاله كمبرر للتناحر الطائفي والثاني يتعلق بالمسألة اللبنانية التي تزداد صعوبة على الحل مع مرور الزمن، حيث تتراجع فرص التسويات الداخلية ويتصاعد ارتباطها بالمناخ الإقليمي المتوتر السائر نحو مزيد من التفكك والاحتراب.

يعنينا هنا تفحص وفهم "المحنة الكبرى" التي يمر الإسلام بها والتي لم يفصّل المفتي اللبناني في شرحها أو تقديم الاقتراحات للخروج منها باستثناء التشديد على أهمية التعايش بين اللبنانيين والتمسك بما تبقى من معالم الدولة. ومباح الاعتقاد أن ما يشير إليه الشيخ دريان يتجاوز بمراحل الأزمة اللبنانية الداخلية الحالية خصوصا في وقت باتت فيه ظاهرة تنظيم "الدولة الإسلامية" والخلافة التي أعلنتها مشكلة عالمية تستدعي تشكيل التحالفات العسكرية والسياسية للتصدي لها.

البقاء في الحيز اللبناني لكلام المفتي يطرح إشكاليتين مترابطتين تتمثل الأولى في العلاقة شديدة التعقيد والصعوبة مع الطائفة الشيعية وممثلها الأهم "حزب الله" والثانية تتلخص في "الانشقاقات" ضمن المتن السنّي، ليس في لبنان وحده بل في المشرق العربي وربما أوسع وأبعد من ذلك. ويصعب الفصل بين الإشكاليتين لتداخلهما وارتباطهما ارتباط التوأم السيامي. فالأولى تغذي الثانية وهذه تُصعّد صعوبة تلك وتجعل منها عقدة غير قابلة للحل.

في مجال التمهيد لفهم "المحنة الكبرى" يمكن القول إن واحدة من سماتها الرئيسة هي محاولة دفع الإسلام إلى الزاوية الأيديولوجية. ويتحمل مسؤولية هذا الفعل الدعاة الحديثون للإسلام السياسي من حسن البنا وصولاً إلى آخر مسلح في بوادي العراق وسوريا. لقد ألحقت هذه المحاولة ضرراً شديداً بالإسلام كدين عالمي بشعارات فارق التبصر أصحابها من نوع "الإسلام دين ودنيا" و"الإسلام هو الحل" ما أطلق سلسلة لم تنته بعد من الصراعات الأيديولوجية والسياسية التي كان في الوسع تجنبها، لو أن الطبقات الاجتماعية السائرة وراء هذا الصنف من الشعارات تحلت بقدر أكبر من الوعي التاريخي والسياسي.

لقد فرض هذا السلوك على الإسلام الخوض في مجالات ليست له وأظهرته فاشلاً في المباراة الأيديولوجية والاقتصادية والسياسية مع التيارات الحديثة الأفضل تسلحاً في هذه المضامير.

الضربة الخطيرة الثانية التي أفضت إلى اكتمال دائرة "المحنة الكبرى" المحيطة بالاسلام، كانت محاولة نقله من الأيديولوجيا إلى النموذج السياسي العياني المطبق على أرض الواقع، على ما حاولت "طالبان" فعله في تسعينيات القرن الماضي وعلى ما تسعى إليه "الدولة الإسلامية" اليوم. لا يحتاج الأمر بحثاً طويلاً للقول إن الانتقال من الأيديولوجيا إلى النموذج المطابق، "البراكسيس" يفترض سلسلة من الشروط الثقافية والاجتماعية الملائمة تفرض نفسها على أرض الواقع عن طريق الثورة، أو التغيير الجذري والكامل للمعطى السياسي والاجتماعي والثقافي.
  
مرة ثانية، أسفر هذا الانتقال من الأيديولوجيا إلى "البراكسيس" باستخدام الإسلام إلى "المحنة". ذلك أن المجتمعات العربية والاسلام بعد أربعة عشر قرناً من الأيام الأولى للدعوة المحمدية، باتت أكثر تعقيداً بكثير من أن تحكمه ثنائيات الخير والشر وتبسيطية إقامة الحدود على الطريقة الداعشية. وكل من قيض له قراءة الفقه الإسلامي في مراحل تطوره المختلفة، لن يجد صعوبة في تلمس المواءمة التي كان يحرص كبار الفقهاء عليها بين مجتمعاتهم وبين الدين.

ولن تؤدي محاولة فرض الإسلام كهوية سياسية وثقافية على المجتمعات المعاصرة في المشرق العربي وغيره إلا إلى رفع التوتر الداخلي إلى حدود غير مسبوقة والتهديد بتفجير هذه المجتمعات من الداخل، على غرار ما رأينا في التجربتين المصرية والتونسية، أو تعريضه لخطر الحرب الأهلية كما يجري في بلدان أخرى.

على هذه الخلفية، لا يصح إنكار جسامة التحدي الذي تشكله الاندفاعة الإيرانية منذ قرابة العقدين. صحيح أن تصدع المجتمعات العربية وفشلها المتراكم في حل مشكلاتها البنيوية ساعد كثيراً في تظهير النفوذ الإيراني، لكن ينبغي أيضاً الاعتراف أن الإيرانيين باستخدامهم الأداتي لعناصر قوتهم في المنطقة، لم يظهروا أي قدر من الاعتبار لردود الفعل المحتملة ومنها ارتماء شرائح واسعة من السكان في أحضان التطرف كوسيلة يائسة ووحيدة للرد على هذا التقدم العدائي.

لا يبرر الكلام أعلاه التطرف والإرهاب المتخذ من الإسلام ستاراً له لكنه، بالقدر ذاته، لا يسعى إلى استغلال هذين الإرهاب والتطرف كستارة لمشاريع وطموحات لا تبالي، في واقع الأمر، بمآسي شعوبنا.