السبت 10 يناير 2015 / 20:18

التكلفة الدموية والاقتصادية بالأرقام (2)

تكشف نظرة سريعة اليوم إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بجلاء عن صورة شديدة التباين, حيث عانت كلّ من سوريا والعراق وليبيا، ولا تزال تعاني حالياً, صراعات عنيفة أحدثت خسائر واسعة في الأرواح البنى والتحتية والاقتصادات الوطنية, وما إلى ذلك من آثار غير مباشرة في البلدان المجاورة الأردن ولبنان, كما تمر تونس ومصر واليمن حالياً, بمرحلة تحول سياسي حافلة بالتحديات والمصعب أدّت إلى تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي, وتفاقم الاختلالات على صعيد الاقتصاد الكلي.

وقد شهدت المنطقة العربية منعطفاً سياسياً خطراً بات يعرف بـ "الربيع العربي", وهو مصطلح أطلق على الأحداث التي أطاحت حكم زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر, والعقيد معمر القذافي في ليبيا, وعلي عبدالله صالح في اليمن.

وقد تسبّب "الربيع العربي" بصورة مباشرة بدمار وانهيار اقتصادي في المجالات كافة, حيث أن خسائر الدول العربية التي تعرضت لموجات الثورات قدرت بالمليارات, فلم يحقق ذلك "الربيع", أياً من أهدافه التي أعلنت حينه, وإنما أصبحت تلك الدول تشهد حروب ميليشيات تدعم كلاً منها جهة إقليمية أو دولية.

وقد سبق أن قدر "البنك الدولي" تكلفة أعمال العنف في مصر وتونس وسوريا واليمن وليبيا, وآثارها غير المباشرة, بنحو 168 مليار دولار خلال الفترة بين عامي 2011 و 2014, أي ما يعادل 19% من إجمالي الناتج المحلي لهذه الدول, فقد أثّرت الصراعات في أكثر من 10 ملايين شخص في أنحاء المنطقة.

التكلفة الاقتصادية لـ "الربيع العربي" على مصر
تلعب السياحة دوراً مركزياً في الاستقرار الاقتصادي لمصر, التي تجاوز عدد سكانها ثمانين مليون نسمة, وليست لديها ركائز اقتصادية متينة, كالصناعة والزراعة, يمكن أن تعوّض الخسائر التي قد تأتي من قطاع خدمي كالسياحة, وأشار تقرير اقتصادي رسمي من مصر إلى أن نسبة التراجع في هذا القطاع بلغت 20% خلال عام 2011, وهو ما يعني خسائر كبيرة للمصريين.

ويذكر أنه في العام الذي سبق "الربيع العربي" المصري بلغ عدد السياح الذين زاروا مصر نحو 12 مليوناً, وحقّق ذلك دخلاً كبيراً للاقتصاد المصري بلغ نحو 13 مليار دولار, أما اليوم وبعد عام كامل من "ربيع عربي" غير الخريطة السياسية المصرية, وقلب أوضاعها رأساً على عقب, فقد تراجع عدد السياح وقدرت خسائر السياحة ما بين يناير 2011 ويناير 2013 بنحو 3 مليارات دولار, وتراوح التراجع في إشغال الفنادق ما بين 10% و 15%, وانتقلت الانتكاسة إلى قطاعات حيوية أخرى لها ارتباط مباشر بالقطاع السياحي.



ويتبين من أرقام البنوك المركزية لبلدان "الربيع العربي" في نهاية العام الماضي الحجم الكبير الذي وصلت إليه خسائرها نتيجة لـ "الربيع العربي" وآثاره السلبية في قطاع حيوي مثل السياحة, خاصة فيما يتعلق بالاحتياطات الأجنبية, وفي مصر مثلاً تراجع الاحتياطي النقدي إلى ما يقرب من 20 مليار دولار, وهذا نذير شؤم للاقتصاد المصري كله, إذا لم تعد هذه الاحتياطات تغطي أكثر من أربعة أشهر.

وما يزيد الوضع قتامةً هو الطبيعة الاقتصادية لمصر, التي تعتمد على عوامل خارجية وليست داخلية كالصناعة مثلاً, فأهم مصادر الدخل المصرية هي السياحة وعائدات الغاز وقناة السويس, وما يأتيها من خلال الاستثمارات الخارجية المباشرة وغير المباشرة. كما أن ما يحدث من ضبابية سياسية في مصر ووضع أمني غير مستقر أبعد السياح والمستثمرين, حتى إنه بدأ يوثر سلباً في حركة النقل من خلال قناة السويس، ويقول كثيرون إن التراجع الكبير في القطاع السياحي كان من أهم الأسباب التي أدّت إلى تأكل الاحتياطيات الأجنبية في مصر.

تونس
نالت تونس كذلك نصيبها من الخسائر الكبيرة التي تكبدها القطاع السياحي, إذ تشير الأرقام إلى أن هذا البلد العربي المتوسطي الصغير خسر ما يقرب من نصف مليون فرصة عمل, وانضم هؤلاء العاطلون الجدد إلى طابور طويل للعاطلين عن العمل بسبب التراجع المهول الذي شهده هذا القطاع, سواء في الإشغال الفندقي, أو تراجع النشاط في القطاعات المغذية للسياحة, وبلغت نسبة تراجع أعداد السياح الاجانب في تونس نحو 13%، ويذكر أن تونس زارها نحو سبعة ملايين سائح عام 2010, وتشير تقديرات إلى أن حجم خسائر هذا القطاع تعدت المليار دولار.

وقد أسهم الشلل شبه التام الذي أصاب القطاع السياحي في تونس في ارتفاع قياسي للبطالة, إذ وصلت إلى 18% في نهاية العالم الماضي, ومما أسهم في هذا أيضاً مئات الإضرابات والاعتصامات, التي باتت يومية تقريباً في تونس وعلى مدى أشهر, وتسببت هذه الاضطرابات بتراجع النشاط الاقتصادي كله, وبهروب جماعي للمستثمرين وإحجام آخرين عن الذهاب لتونس إلى أن تستقر الأوضاع.



وفي نشرة سابقة لـ "البنك المركزي التونسي" تبين أن النمو الاقتصادي للبلد وصل نهاية عام 2011 إلى نقطة الصفر. ولا يغطي الاحتياطي الأجنبي في تونس سوى 113 يوماً, إذ تراجع إلى مستوى سبعة مليارات دولار. وما أسهم في قتامة الوضع بالنسبة إلى تونس أن قطاعها السياحي مرتبط بشكل كبير بأوروبا. ونظراً إلى استمرار تداعيت الازمة المالية العالمية من جهة, وتفاقم أزمة الديون السيادية في أوروبا من جهة أخرى, فقد اجتمعت هذه العوامل كافة لتلقي بظلالها الثقيلة والسلبية على الاقتصاد التونسي, وتلعب دوراً سلبياً في تأخير تعافيه حتى مع استقرار الوضع السياسي, وتراجع الإضرابات والاعتصامات, وتحسّن الوضع الأمني, وربما سيكون الخيار الأمثل بالنسبة إلى مصر وتونس هو التوجه خليجياً, سواء من حيث تشجيع الخليجيين على زيارة هذين البلدين, او تشجيع رأس المال الخليجي على العودة, و إما إلى زيادة قيمة استثماراته, وكذلك الحصول على دعم مالي.