السبت 11 أبريل 2015 / 19:37

السراب| السـروريون والمشاركة السياسية

أصدر مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية الدكتور جمال سند السويدي، مؤخراً كتاب "السراب"، وتتمحور فكرته الأساسية حول "السراب السياسي" الذي يترتب على الوهم الذي تسوقه الجماعات الدينية السياسية لشعوب العالمين العربي والإسلامي.

الفكر السلفي الحركي لا يجيز الخروج على الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله فقط، بل يوجب قتال الغرب "الكافر" ويتهمه بمحاربة الإسلام أيضاً

التيار السـروري يعيش أزمة حقيقية، ويتراجع بسبب التناقضات في الفكر والممارسة لديه، فهو يتحدث عن "الحاكمية" ثم يدعو إلى الديمقراطية!

التيار السـروري خسـر معظم رموزه من أمثال سفر الحوالي وسلمان العودة منذ أن ناصب دول الخليج العربية العداء بعد أن استضافت رموزه في ظروف صعبة

ويكشف الكتاب، عبر فصوله السبعة، حجم التضارب القائم بين فكر الجماعات الدينية السياسية وواقع التطور الحاصل في النظم السياسية والدولية المعاصرة، خاصة فيما يتعلق بمسألة التنافر بين واقع الأوطان والدول وسيادتها القانونية والدولية من ناحية، ومفهوم الخلافة الذي تتبناه هذه الجماعات من ناحية ثانية، كما يكشف هذا الكتاب علاقة الترابط الفكرية القائمة بين جماعة الإخوان المسلمين والتنظيمات المتطرفة التي ولدت في مجملها من رحم هذه الجماعة، وفي مقدمتها القاعدة وداعش.

24 ينفرد بنشر كتاب "السراب" على حلقات:

الحلقة 26

الباب الثاني: حالات تطبيقية

الفصل الخامس| السـروريون

ثامناً: السـروريون والمشاركة السياسية

ذكرت سالفاً أن الحركة السـرورية نشأت في ظل بيئة خصبة، بل ومهيأة لتقبل الفكر الإسلامي وتجديد مفاهيمه، وذلك في ظرف تاريخي متوافق، فبعد خروج الإخوان المسلمين من السجن خلال فترة حكم الرئيس المصـري الأسبق محمد أنور السادات، كان التوجه العام بعد مراجعات فكرية وفقهية وسياسية متعددة قامت بها الجماعة، هو المشاركة في السلطة أو الحياة السياسية، وهو ما كان يتعين معه الانخراط الفعلي في العمل السياسـي ومؤسساتـه القائمـة، وفي الوقـت نفسـه موالاة الحاكـم أو علـى أقـل تقدير التعامل معـه، حتى إن كان فاسداً أو مستبداً من وجهة نظرهـم الفقهيـة.

وبحكم الظروف السياسية المرتبطة في مجملها بالقضية الفلسطينية والصـراع العربي-الإسـرائيلي، وبالتزامن مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية في العديد من الدول العربية والإسلامية في النصف الثاني من القرن العشـرين، كان هناك تقبُّلٌ نسبي للأيديولوجيات الإسلامية التي روجتها الجماعات الدينية السياسية، بل كان هناك تعطش للتغيير الذي لم يكن في الساحة قوى سياسية أو اجتماعية قادرة على قيادته، خاصة بعد هزيمة عام 1967م وما تبعها من انحسار كبير للمد القومي، سوى تلك الجماعات وفي مقدمتها الإخوان المسلمون. وفي هذا الإطار لا أستطيع إغفال دور الثورة الإسلامية الإيرانية التي كان يُنظر إليها وقتذاك على أنها محرك، أو على أقل تقدير من أهم الأحداث التي أثرت في فكر الجماعات الدينية السياسية وممارستها، ومن ثم ظهور المد الإسلامي أو ما سمي الصحوة الإسلامية، وما ارتبط بها من مفاهيم جديدة في الفكر السياسـي الإسلامي كمفهوم الإسلام السياسـي الذي تناولته تفصيلاً في الفصل الأول من هذا الكتاب. وكثيراً ما كانت الثورة الإسلامية الإيرانية بالرغم من مرجعيتها المغايرة، بل المناقضة، لمرجعية هذه الجماعات - وفي هذا بالطبع مفارقة غريبة - ملهماً لقيادات الجماعات الدينية السياسية وتوجهاتها، بما فيها الإخوان المسلمون.



أما على الجانب الآخر، فقد كانت السلفية التقليدية، التي تأثرت بدعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب، تقرُّ مبدأ الطاعة لولي الأمر والحاكم تحت مختلف الظروف. ويسود هذا الفكر في دول عربية وإسلامية منها المملكة العربية السعودية، بل تمثل السلفية التقليدية أحد أهم أسس الدولة السعودية، ولكن مبدأ طاعة ولي الأمر بشكل مطلق، وإن كان يستند إلى آراء فقهية معتبرة، لم يكن يقبله كل السلفيين من هذه المدرسة، بما فيها مدرسة الإمام محمد بن عبدالوهاب نفسه. ومع بروز المد الإسلامي في عقد الثمانينيات بدأت أفكار التغيير تنتشـر، وقضية الحكم تلقى اهتماماً أكبر، خاصة لدى جيل الشباب.

فعندما حطَّ محمد بن سـرور الرحال في المملكة العربية السعودية عام 1965م، وبغض النظر عن درجة التأثير أو التأثر بالبيئة الفكرية المحيطة في البداية، فقد كانت الساحة مهيأة للعديد من الأفكار التي كان يؤمن بها سـرور، والتي دفعته أصلاً للخروج من جماعة الإخوان المسلمين. لقد رأى أن الإخوان المسلمين ذهبوا بعيداً في موالاة الحكام وتساهلوا في العديد من الأحكام الشـرعية، بينما أهملوا العقيدة وابتعدوا عن منهج السلف الصالح. في المقابل، رأى أن السلفيين التقليديين بالغوا في قضية الطاعة لولي الأمر وكأنها مطلقة، لذا كان هناك نوع من التعطش لفكر مغاير ومتجدد، فكانت فرصة حقيقية لابن سـرور لطرح رؤيته التي ما لبثت أن انتشـرت على نطاق واسع، خاصة بين طلاب المعاهد الشـرعية، ومن هنا يمكن فهم كيف أصبحت المملكة العربية السعودية بيئة قابلة أو حاضنة لأفكار مغايرة مثل أفكار محمد بن سـرور.

 قتال الغرب "الكافر"
ومع بداية الألفية الثالثة، حدثت تطورات عالمية كبيرة كان أهمها هجمات الحادي عشـر من سبتمبر 2001م، وأصبح الفكر الإسلامي بشكل عام وفكر الجماعات والتيارات الإسلامية بشكل خاص، وعلى اختلاف توجهاتها، محط اهتمام عالمي غير مسبوق، ولكن أيضاً محط نقد شديد؛ ولكن الهجوم الأكبر كان على الفكر السلفي بشكل عام والحركي بشكل خاص، حيث وُجِّهت أصابع الاتهام إليه، ليس فقط من الغرب وإنما من قبل الجماعات الدينية السياسية الأخرى أيضاً، ببث أفكار تغذي التطرف لدى الشباب، ومن ثم الجنوح نحو الإرهاب. لقد كانت الجماعات الدينية السياسية، ولا تزال، تجيز الخروج على الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله، كما توجب قتال الغرب الذي تصنفه هذه التيارات باعتباره "كافراً" ولا يؤمن بالله وتتهمه بمحاربة الإسلام، لذلك أصبح أصحاب هذا الفكر محل اتهام مباشـر، ومن ثم فلا عجب إذا أشارت التحقيقات الخاصة بهجمات الحادي عشـر من سبتمبر 2001م، إلى أن مختطفي الطائرتين اللتين هاجمتا الولايات المتحدة الأمريكية يحملون أفكاراً سلفية حركية جهادية.



كانت الأحداث في الواقع توحي بخطر بروز مؤشـرات صـراع حضاري عالمي، لذا كان لا بد من تبني بعض الدول سياسات دفعت بعض الجماعات الدينية السياسية، خاصة السلفية، إلى إجراء مراجعات فكرية. ولأن الدعوة السلفية الحركية في دائرة الاتهام، كانت هناك مراجعات على مستويات مختلفة أدت في نهاية المطاف إلى قبول واضح لبعض الأفكار التي يمكن أن تساعد على تخفيف حدة النظرة إلى التيار السلفي، فتم قبول المشاركة في الانتخابات. وبالفعل، شارك السـروريون في الانتخابات البلدية التي جرت في المملكة العربية السعودية عام 2008م، وكذلك شاركوا في انتخابات مجلس الأمة الكويتي عام 2005م. لقد كانت هذه المشاركة المباشـرة تعبيراً واضحاً عن طبيعة هذا التيار وتوجهه، وربما يقوي من واقعية الاتهامات التي وجهت إليه من قبل بشأن نظرته للمصلحة. لذلك كان قبول العمل السياسـي والمشاركة في الانتخابات التي كانت أحد أهم أسباب الانشقاق عن الإخوان المسلمين من قبل، دليلاً على دور مفهوم المصلحة في فكر التيار السـروري، بل وجعلت منه محط اتهامات واسعة من التنظيمات الجهادية التي كان يُعتبر أحد روافدها الفكرية أيضاً، حيث يتهمونه بالميل لموالاة الحكام، وعدم إجازته مقاتلة الحاكم، فضلاً عن عدم قبوله الفكر الجهادي الذي تقوده القاعدة، سواء في جمهورية العراق أو في جمهورية أفغانستان الإسلامية.
وعلى الرغم من تشدُّد هذا التيار فيما يتعلق بقضية الحكم، فإن أتباعه الآن لا يجدون بأساً في المشاركة السياسية، بل ويدعون إلى تأسيس الأحزاب السياسية والانخراط في نظم الحكم حتى لو لم تكن في نظرهم نظم حكم إسلامية، والدافع هو تحقيق مصالح مهمة أقلها درء الفتنة أو التخفيف من آثارها بحسب ما يقولون. ولا شك في أن هذه البراجماتية المفرطة إلى حد كبير لم تأت من فراغ، وإنما جاءت من تصور لا يقول به إلا السلفيون، وهو تغليب المصلحة على المفسدة بعمومها، إلى درجة أن بعض خصومهم يتهمونهم بأنهم يجيزون الشـرك في سبيل المصلحة، وهم في ذلك، مثل جماعة الإخوان المسلمين، أقرب إلى الشيعة من حيث تبنيهم مبدأ التقية. وأياً يكن الأمر، فإن مراجعة كتابات مؤسس التيار محمد بن سـرور وخطبه تكشف عن أن هناك اهتماماً متزايداً بالسياسة، وقبول الديمقراطية والعديد من مفاهيمها، بما فيها تشكيل الأحزاب السياسية. ولعل أكبر برهان عملي على ذلك هو محاولة بعض رموز هذا التيار وقياداته تأسيس حزب لهم في دولة الكويت باسم حزب الأمة، ولكن لم تسمح السلطات بذلك.

الديمقراطية
 ويتضح من خلال المقارنة بين الفكر والمعتقد من جهة والممارسة العملية من جهة أخرى، أن السـرورية تتبنى الديمقراطية والتعددية الحزبية ولكن ليس من منطلق الإيمان بها أو قبول توافقها مع التعاليم الدينية، خاصة السلفية منها، وإنما هي وسيلة لا بد من استغلالها في سبيل درء مفاسد قد تترتب على عدم الاشتراك فيها، ومن ثم يجب تغليب المصلحة الآنية درءاً للمفسدة المحتملة أو المقدرة.

ولا يختلف موقف السـروريين من الحكم كثيراً عن موقفهم من الديمقراطية مع اختلاف الاثنين من حيث الشكل والمضمون؛ ولكنهما فعلياً أكثر العوامل تأثيراً، ليس في تحول محمد بن سـرور عن الإخوان المسلمين فقط، وإنما في التغيير الرئيسـي في فكره وتوجهه وممارسته بعد الانشقاق أيضاً، ولهذا فإن أهم ما تميَّز به فكر سـرور هو قضية الحاكمية، حيث أصبحت فعلاً من مقومات تياره الذي حاول أن يتمايز به عن غيره من الجماعات الدينية السياسية، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين. فقد أسس موقفه من أنظمة الحكم من خلال موقفهم من هذا المبدأ ومدى تطبيقهم لمحتواه: أي الحكم بما أنزل الله.

ومن ثم فعدم الحكم بما أنزل الله يوقع الكفر ويستوجب إظهار البراءة. والحقيقة أن السـرورية ربما تنفرد عن الكثير من الجماعات الدينية السياسية - باستثناء التنظيمات الجهادية - بقضية الحكم، فهم يعارضون الإخوان المسلمين، حيث خرج مرجعهم من رحمها، والجامية وغيرها من الجماعات التي تُصنَّف على أنها سلفية تقليدية، ويأخذون عليها جميعاً نفاق الحكام ومسايرتهم، بل لقد دخل هذا التيار في مواجهة فكرية مفتوحة في التسعينيات من القرن الماضـي على وجه الخصوص مع هذه التيارات. فهم يتهمون الإخوان المسلمين بالتساهل في كثير من الأمور التي يجب أن تنضبط شـرعياً بأحكام الدين، ومنها العمل الحزبي والسياسـي وغيرها من المفاهيم المرتبطة، كقضايا حقوق الإنسان والمرأة وغيرها. في المقابل فهم يتهمون السلفية التقليدية، بتوجهاتها المختلفة، بأنها غيبت وعي الأمة من خلال ترويجها فكرة طاعة الحاكم تحت أي ظروف، وتحريم الخروج عليه، بل حتى رفض التعبير السلمي عن معارضتها له.

وفي ضوء ما سبق، فإنني أعتقد أن الإخوان المسلمين لا يؤمنون أيضاً بالعمل السياسـي والمشاركة الحزبية التعددية، بل يميلون أيضاً إلى احتكار السلطة والاستبداد وتصنيف خصومهم وفق أسس عقائدية، والاختلاف فقط يكمن في التكتيك السياسـي الذي يرتبط بدوره بالموروث التاريخي القديم لجماعة الإخوان المسلمين وسعيهم للاستفادة من تجاربهم السابقة، وإن ظهرت ممارساتهم في هذا الإطار كنوع من القبول بقواعد اللعبة السياسية.

نظرة عامة وتقييم
إن المدقق في حقيقة التيار السـروري يجد أنه، على الرغم من انتشاره النسبي، لم يأت فعلاً بجديد على المستوى الفكري، ولم يحقق الكثير من الإنجازات على أرض الواقع، كما أن مؤسس هذا التيار لم يكن لديه أثر فكري وفقهي متين يمكن الاعتماد عليه في إقامة تيار جديد متمايز عن غيره، كما يتهمه كثير من معارضيه، سواء من الإخوان المسلمين أو من السلفيين أنفسهم. ولا يعدو الأمر في نظر كثير من المنتقدين سوى عملية تلقيح لسلفية الإمام محمد بن عبدالوهاب بمنهج يحاول ادعاء الإصلاح. ولذا نجد هذا التيار يجمع شخصيات مختلفة في التصور والممارسة، ولا يجمعها فعلاً سوى ما تقول إنه الدعوة إلى الإصلاح وفقاً لمنهج السلف الصالح، وهي دعوة تنادي بها التيارات والجماعات الدينية السياسية الأخرى أيضاً، بمن في ذلك الإخوان المسلمون. لذا فالتيار السـروري لم يأت بمفاهيم جديدة يمكن التأسيس عليها في إيجاد منهج جديد، ولم يحقق اختراقاً على مستوى التجديد والتحديث الفقهي، ولكنه مع ذلك حقق انتشاراً بسبب ما اعتبره أنصاره جاذبية لأفكاره، خاصة ما يتعلق منها بمسألتي الحاكمية والجهاد.



ويمكن أيضاً ملاحظة التناقض الواضح في الفكر والممارسة لدى مؤسس هذا التيار ودعاته، فبينما يعتقدون بالحاكمية ويقولون بتكفير الحاكم إذا لم يقم بتطبيق شـرع الله، فهم يدعون إلى الديمقراطية والمشاركة السياسية، بل وينشئون الأحزاب التي اعتُبرت أحد المآخذ على نظرائهم من الإخوان المسلمين، ومن دوافع انشقاق مؤسس التيار محمد بن سـرور عن جماعة الإخوان المسلمين. فالانخراط في الديمقراطية، وإن كان مجرد آلية، يتطلب قبول المفاهيم القائمة عليها والانخراط في مؤسسات الدولة التي يتولى مسؤوليتها حكام يعتقد السـروريون أنهم لا يحكمون بما أنزل الله. هذا فضلاً عن أن مؤسس التيار نفسه كان يعيش في بلاد غير إسلامية في الوقت الذي كان يعتبر فيه الخروج من بلاده إلى بلاد أخرى، ولو كانت عربية أو إسلامية، من "المنكرات"، كما ذكر ذلك في برنامج "مراجعات" الذي أجرته معه قناة "الحوار" في لندن عام 2008م.

كما يؤخذ على محمد بن سـرور أيضاً تناقضه في أمور أخرى غير قضية الحكم، مثل نظرته إلى العقيدة التي عاب على الإخوان المسلمين ابتعادهم عنها، فبينما يعتمد بشكل أساسـي على كتب الإمام أحمد بن تيمية، فهو من أشد منتقدي كتب العقيدة القديمة، حيث ينظر إلى كثير منها على أنها جافة وتعالج مشكلات عصـر مختلف عن عصـرنا، ومن ثم فهناك حاجة ماسة إلى إعادة النظر فيها. وهذا ما أثار حفيظة كثير من علماء السلف واعتبروه خروجاً عن منهجهم، فقد علق ناصـر الدين الألباني على هذه النظرة بالقول: "وهل يقول هذا مسلم؟!".

من جهة أخرى، فإنه يؤخذ على السـروريين تناقضهم فيما يتعلق بالدعوة إلى الجهاد. ويرى بعض منتقديهم أنهم التصقوا بالتنظيمات الجهادية بحكم التقارب الفكري بينهم وبينها، حيث يطلق عليهم بعض الإسلاميين والمحللين اسم الحركة الجهادية السلفية. ومع ذلك فإن السـرورية لا تعتبر نفسها إعادة تأهيل للسلفية الجهادية، وإن تقاطعت معها لأنها جمعت بين الحركية والسلفية، وأنها تتميز عن التنظيمات الجهادية في أنها تقدم رؤية دينية واضحة ومحددة لكثير من الأمور والقضايا، مثل حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات ومفاهيم الدولة والحاكم والمحكوم، على عكس ما تفعله التنظيمات الجهادية كالقاعدة وغيرها.

خسارة الرموز
ولعل هذه التناقضات من أهم عوامل انحسار هذا التيار شعبياً، بل وربما تلاشيه تدريجياً بعد فترة تمدد، كما تناولت سابقاً. صحيح أن التيار ما زال له مناصـرون حتى في المملكة العربية السعودية، وأن هناك العديد من قياداته المتنفذة في بعض مؤسسات المملكة، خاصة الجامعات والمعاهد العلمية، ولكن التيار السـروري يعيش الآن أزمة حقيقية، ويتراجع بشكل ملحوظ. فبينما كان أنصاره، خاصة من الشباب، منتشـرين بالآلاف في المملكة العربية السعودية في آخر عقدين من القرن العشـرين، فإن التيار فقد الآن قاعدته الشبابية فيها وفي الخارج أيضاً. وبينما كان للتيار رموز دعوية كبيرة من أمثال سفر عبدالرحمن الحوالي وسلمان بن فهد بن عبدالله العودة وغيرهما، فقد خسـر كل هذه الرموز، بل أعلن كثير منهم رفضهم طروحات محمد بن سـرور، واعتبروها متناقضة، خاصة بعد موقفه خلال حرب الخليج الأولى التي ناصب فيها دول الخليج العربية العداء، خاصة المملكة العربية السعودية ودولة الكويت اللتين استضافتاه في ظروف صعبة. ورأى كثير من أتباعه السابقين، من مستويات مختلفة، أنه لم يحترم لهذه الدول ولا لحكامها موقفهم منه ومن تياره الذي سمحوا له بحرية الحركة والدعوة، بل والانخراط حتى في أهم مؤسسات الدولة والمجتمع كمؤسسات التربية والتعليم.



خلاصـة
انشق محمد بن سـرور عن جماعة الإخوان المسلمين بسبب ما اعتبره خروجاً للجماعة عن منهج السلف الصالح واهتمامها المتزايد بالجوانب الحركية على حساب العقيدة، وكذلك انهماكها في العمل السياسـي في أطره القائمة، والتي اعتبرها مخالفة للشـريعة الإسلامية ولا يجوز العمل من خلالها. لهذا حاول سـرور المواءمة بين ما هو حركي، مقتدياً بفكر سيد قطب في هذا المجال، وما هو عقائدي، معتمداً على فكر الإمام أحمد بن تيمية. وقد أصبح مفهوم الحاكمية ومبدأ الولاء والبراء، أهم الأسس التي قام عليها فكر السـرورية، ومن ثم مثلت أهم عوامل انتشاره وتمدده. وبالرغم من أن المملكة العربية السعودية كانت المنبت وربما الحاضنة بشكل أو بآخر لهذا التيار، خاصة في بداية نشأته، وذلك بحكم تجذر الفكر السلفي التقليدي في المملكة، فقد انتشـر التيار السـروري في العديد من البلاد العربية والإسلامية الأخرى. وتمثل الأفكار الجهادية للسـرورية عوامل جذب رئيسية خاصة للشباب، ولعل هذا ما ساعد بشكل أساسـي على ظهور السلفية الحركية أو الجهادية التي انبثقت منها أو تأثرت بها التنظيمات الجهادية المعاصـرة. وبالرغم من مزاوجة السـرورية بين فكر الإخوان المسلمين من جهة والسلفية من جهة ثانية، فإن السـرورية تختلف عن هذين الفكرين، ليس فقط فيما يتعلق بموضوع الولاء والبراء للحكام أو غير المسلمين من المسيحيين، وإنما أيضاً في فهم مدلول التوحيد نفسه. ويؤخذ على السـروريين أيضاً تناقضاتهم، فالتحول المفاجئ في النظرة إلى المشاركة في العمل السياسـي من التكفير المفرط إلى الانخراط المباشـر عمَّق الشعور العام بضبابية هذا التيار بل وتناقضه وحتى انتهازيته، وهذا ربما يفسـر إلى حد كبير خسارته الكثير من أنصاره، فالتيار يعيش الآن أزمة حقيقية، فبينما كان أتباعه خاصة من الشباب بعشـرات الآلاف في المملكة العربية السعودية وخارجها، كما تولى الكثير منهم مواقع مهمـة خاصـة في التعليـم، فإن التيـار فقد قواعده الشعبية والشبابية، وهو يعيش الآن مرحلة غير مسبوقة من الانحسار، وربما نشهد تلاشيه قريباً، فالفكر الذي لا يرتبط بالواقع ولا يتعامل معه بضوابطه الشـرعية والحركية، ويتحول وفقاً لأهوائه ومصالح من يقوده أو يتولى أمره، مصيره إلى الفشـل الحتمـي.