الخميس 7 مايو 2015 / 18:47

السراب| داعش.. بين الجهادية والطائفية

أصدر مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية الدكتور جمال سند السويدي، مؤخراً كتاب "السراب"، وتتمحور فكرته الأساسية حول "السراب السياسي" الذي يترتب على الوهم الذي تسوقه الجماعات الدينية السياسية لشعوب العالمين العربي والإسلامي.

إذا كانت الأزمة السورية قد أبرزت عمق الخلافات البينية بين القاعدة المركزية وفروعها الإقليمية، فإن هذه الخلافات كانت نتيجة متراكمة لتجاذب وتباينات تعمقت منذ مرحلة انسحاب القوات الأمريكية من جمهورية العراق عام 2011

لم يلق إعلان "الخلافة" قبولاً إقليمياً أو دولياً؛ حيث أكدت هيئة علماء المسلمين في العراق أن "الخطوة لا تصب في مصلحة العراق ووحدته، وغير ملزمة شـرعاً لأحد"

ويكشف الكتاب، عبر فصوله السبعة، حجم التضارب القائم بين فكر الجماعات الدينية السياسية وواقع التطور الحاصل في النظم السياسية والدولية المعاصرة، خاصة فيما يتعلق بمسألة التنافر بين واقع الأوطان والدول وسيادتها القانونية والدولية من ناحية، ومفهوم الخلافة الذي تتبناه هذه الجماعات من ناحية ثانية، كما يكشف هذا الكتاب علاقة الترابط الفكرية القائمة بين جماعة الإخوان المسلمين والتنظيمات المتطرفة التي ولدت في مجملها من رحم هذه الجماعة، وفي مقدمتها القاعدة وداعش.

24 ينفرد بنشر كتاب "السراب" على حلقات:

الحلقة 33

الباب الثاني: حالات تطبيقية

الفصل السادس| الجماعات الدينية السياسية: التنظيمات الجهادية

تنظيم داعش (2)


النشـأة والفكـر
على الرغم من انضمام الفرع العراقي لتنظيم القاعدة المركزي ومبايعة أسامة بن لادن، كما أشـرت إليه سالفاً، فإن المؤسس الأول للتنظيم العراقي "الزرقاوي" عمل على تأسيس شبكته الممتدة الخاصة المستقلة بدءاً من الأردن ومروراً بأفغانستان وختاماً في العراق، إلى أن قتل في 7 يونيو 2006م، ومن ثم أعلن تأسيس "الدولة الإسلامية في العراق" في 15 أكتوبر 2006م بزعامة أبي عمر البغدادي، وعقب مقتله في 19 إبريل 2010م إلى جانب قائده العسكري أبي حمزة المهاجر، تولى الإمارة أبو بكر البغدادي في 16 مايو 2010م، وهي الحقبة التي شهدت تحولاً في البنية التنظيمية للفرع العراقي لتنظيم القاعدة، الذي لم يعد يحفل برضا التنظيم الأم وبقية التنظيمات الجهادية، ولا سيما بعد الصدام المسلح المفتوح منذ انفجاره في 3 يناير 2014م مع هذه التنظيمات، وفي مقدمتها "جبهة النصـرة" وجيش المجاهدين والجبهة الإسلامية وجبهة ثوار سوريا فضلاً عن تشكيلات الجيش الحر وقوى المجتمع المحلي.



وإذا كانت الأزمة السورية قد أبرزت عمق الخلافات البينية بين القاعدة المركزية وفروعها الإقليمية، فإن هذه الخلافات كانت نتيجة متراكمة لتجاذب وتباينات تعمقت منذ مرحلة انسحاب القوات الأمريكية من جمهورية العراق عام 2011م، وتزامنت مع الاحتجاجات الشعبية التي انتقلت إلى الجمهورية العربية السورية منتصف مارس من العام ذاته ثم وصول تلك الأحداث إلى جمهورية العراق نهاية عام 2012م، ما عمل، وفق قراءات تحليلية، على ولادة جديدة لتنظيم "القاعدة" وبعث الحياة في تنظيم "داعش" وتكوين جيل جديد من الجهاديين أكثر عنفاً وأشد فتكاً، وذلك عندما تمرد الفرع العراقي للقاعدة "داعش" على القيادة المركزية لتنظيم القاعدة بزعامة أيمن الظواهري، ومن ثم إعلان أبي بكر البغدادي أمير "الدولة الإسلامية في العراق" في 9 إبريل 2013م ضمّ "جبهة النصـرة" في الجمهورية العربية السورية إلى دولته لتصبح "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، والذي جاء تتويجاً حتمياً للخلافات التاريخية بين الفرع والمركز، والتي تم احتواؤها إبان زعامة أسامة بن لادن للتنظيم المركزي.

وتطور الخلاف بعد أن أصدر زعيم "جبهة النصـرة" أبو محمد الجولاني في اليوم التالي لإعلان الدمج، في 10 إبريل 2013م، بياناً يرفض فيه الامتثال للقرار والانضمام لتنظيم "داعش"، معلناً ارتباطه بالتنظيم المركزي للقاعدة وتأكيد بيعته الصـريحة للظواهري، الذي لم يفلح جهده في احتواء الخلاف حين أصدر قراره القاضـي بتحديد الولاية المكانية للفرعين، في 9 يونيو 2013م، والفصل ببطلان الدمج وحل "الدولة الإسلامية في العراق والشام" مع بقاء "جبهة النصـرة" و"الدولة الإسلامية في العراق" كفرعين منفصلين يتبعان تنظيم القاعدة. وجاء في بيان منسوب للقيادة العامة لتنظيم القاعدة، منشور على شبكة الإنترنت:
تعلن جماعة قاعدة الجهاد أنه لا صلة لها بجماعة الدولة الإسلامية في العراق والشام، فلم تخطر بإنشائها، ولم تستأمر فيها ولم تستشـر، ولم ترضها، بل أمرت بوقف العمل بها.

ورداً على ذلك أعلنت الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" أنها ليست تابعة لتنظيم "القاعدة"، وأشارت إلى أن تنظيم القاعدة أصبح جزءاً من الماضـي. وقالت في بيان نشـر على مدونة تابعة لها يطلق عليها اسم "الاعتصام"، إنه "ليس هناك شـيء الآن في العراق اسمه القاعدة".



خلافات داخلية 
 وفي نهاية يونيو عام 2014م، أعلن تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) قيام "دولة الخلافة" ومبايعة أبي بكر البغدادي "خليفة للمسلمين في كل مكان"، وقال الناطق باسم التنظيم إنه تم إلغاء اسم العراق والشام من مسمى الدولة ليصبح اسمها "الدولة الإسلامية"، وبايع التنظيم زعيمه أبا بكر البغدادي "خليفة للمسلمين"، ودعاهم للهجرة إلى دولته.

ولم يلق إعلان "الخلافة" قبولاً إقليمياً أو دولياً؛ حيث أكدت هيئة علماء المسلمين في العراق أن "الخطوة لا تصب في مصلحة العراق ووحدته، وغير ملزمة شـرعاً لأحد"، فيما انتقد نائب الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أحمد الريسوني ما وصفها "بالخلافة الخرافة والبيعة المزعومة، التي لا تلزم ولا تعني إلا أصحابها"، وفق قوله.

واستمر ذلك الموقف المضادّ مع إمساك شخصيات قيادية في صفوف التيار السلفي الجهادي، الذي خرج "داعش" من رحمه، بناصية مناهضة إعلان الخلافة الإسلامية، ما كشف عن خلاف فكري تنظيمي قد يؤول انشقاقاً داخلياً، وذلك عندما أصدر المنظر الأبرز للتيار وصاحب كلمته الطولى في الساحة الأردنية، حيثما يقيم حالياً، عصام البرقاوي "أبو محمد المقدسـي" فتوى بسحب شـرعية دولة الخلافة في العراق والشام من الخليفة أبي بكر البغدادي، والتي تضمنت تشكيكاً صـريحاً في مسألة البيعة التي "لم تحقق شـرطها"، تلاه تأييد القيادي في التيار عمر محمود عثمان (أبو قتادة) للموقف ذاته، ما أثار جدلاً عاصفاً على مستوى المنابر الجهادية.

المبايعة
وقد آلت الأزمة الداخلية إلى حرب بيانات حادة، مع إصدار أعضاء في تنظيمات جهادية بياناً حمل توقيع "أبناء دعوة التوحيد والجهاد في الأردن"، أعلنوا فيه مبايعتهم تنظيم "الدولة الإسلامية" وأميرها البغدادي، ودعوتهم للمقاتلين تحت لواء "جبهة النصـرة" في درعا والغوطة إلى التخلي عنها ومبايعة داعش، مع توجيه انتقادات لاذعة لمنظري هذه التنظيمات، المقدسـي وأبي قتادة، بسبب مناهضتهما قيام دولة "الخلافة" وتنصيب البغدادي خليفة للمسلمين، قابله تعميم من مجلس شورى التيار السلفـي الجهـادي في الأردن "بعدم الالتحاق بتنظيم الدولة وعدم القتال إلـى جانبه"، مستندين في ذلك إلى فتوى أبي قتادة الذي دعا مقاتلي "داعش" للخروج على قياداتهم وعدم القتال معه واعتبار كل من يقاتل معه آثمـاً".

هذا المعطى الخلافي انعكس ميدانياً في انقسام التيار السلفي الجهادي بين مؤيدي تنظيم "الدولة الإسلامية" من صفوف الجيل الشباب والمناصـرين السابقين للزرقاوي، ومؤيدي "جبهة النصـرة" من الجيل القديم، مثل المقدسـي وأبي قتادة، ما يعني أن جيل الشباب أكثر راديكالية من سلفه.



وبالنسبة إلى كثير من أتباع التنظيمات الجهادية، يعدّ أبو بكر البغدادي وريثاً للزرقاوي، ومن ثم فإن عناصـر تنظيم داعش هم الجيل الجديد من السلفيين الجهاديين الأكثر راديكالية، والأقل ارتباطاً بتأثير كبار السن من القادة ومصدّري الفتاوى لمصلحة غلبة القادة الميدانيين، إذ إن شـروط القوة والعنف والسيطرة هي صاحبة الكلمة الأولى عند التنظيم.

إلا أن تنظيم الدولة الإسلامية يخاطب اليوم شباباً من خارج البيئة السلفية الجهادية، عند إدخاله معطيات مجتمعية واقتصادية في حساب تقديره، والتمدد بين ثنايا نسبتي البطالة والفقر، وذلك لكسب المؤيدين، بخاصة الشباب منهم، بما يقدمه من نموذج مغرٍ لهم عند حديثه عن الخلافة مع الوعد الزائف بانتشالهم من أوضاعهم الصعبة، من حيث الظروف المعيشية والتهميش، ولكن من دون تقديم خطة محددة المعالم للحل.

"داعش" بين الجهادية والطائفية
يعدّ تنظيم "داعش" خليطاً بين السلفية الجهادية والطائفية، في أقتم صورها، حيث يأخذ بالحاكمية والتكفير والتغيير الجذري اعتماداً على العنف، ويرفض الديمقراطية كبديل للحكم الإسلامي، تأثراً بفكر سيد قطب وإعادة استدعاء فكر الإمام أحمد بن تيمية والمودودي، عبر قراءة موجهة للنص الديني تنظر من خلالها إلى الأفراد والمجتمعات والدول من منظور صحة العقيدة فقط، وإقامة التوحيد والعبودية الحقة لله تعالى، بهدف إعادة أسلمتهم بوصفهم خارجين عن الإسلام، بحسب رؤيتها، من دون أي اهتمام يذكر بما هو دون ذلك من مستويات ومصادر فقهية وشـرعية.

وتمثل النصوص القرآنية والنبوية وبعض كتب السلف المصدر شبه الوحيد بالنسبة إلى السلفية الجهادية لجلب الأفكار والخبرات التنظيمية والحركية التي تفسـرها حرفياً وفق قاعدة عموم اللفظ وليس "خصوص السبب" الذي نزلت من أجله أو ذكرت في سياقه تلك النصوص الكريمة، بما يعبّر عن إشكالية العلاقة بين المقدس والدنيويّ وبين النص والواقع المعاش تجاه الفصل أو التوحيد أو ثنائية النص والعقل، وذلك عند التزام التنزيل الحرفي للنص إعمالاً لمنطقها في تقديم الوحي على العقل والقراءة النصّية الحرفية.

وترى تلك التنظيمات، في تبنيها للحقبة النبوية وما تلاها من خلافة راشدة وقياس المرحلة الحالية عليها - والتي يقصـرها سيد قطب على العهدين الأولين في رؤيته الأيديولوجية للمجتمع والدولة - أن ما أحاط بمرحلة الإسلام في المدينة وما تلاها هو الأقرب للعصـر الذي تعيش فيه الآن، وأن العنف، أو الجهاد بحسب مفهومها، هما الوسيلة لإعادة أسلمتها وتأسيسها من جديد على القواعد نفسها التي أسست عليها دولة المدينة.
وتأخذ السلفية الجهادية بالمنهج النصـي والتكفيري، وبمفهوم الحاكمية لله، وإعادة أسلمة المجتمع والدولة بأسلوب العنف، لكونها دار كفر وحرب لا تخضع لحاكمية الله بغض النظر عن الدين الذي يعتنقه السكان، ما تسبب في ولادة قراءات ومفاهيم جديدة تصل إلى تشـريع إعلان الحرب، ليس على من تعتبرهم أعداءً فقط، وإنما على مجتمع المسلمين وضد المخالفين لتفسيراتها أيضاً، مع استحضار سوابق تاريخية صدرت فيها فتاوى تشـرع القتال والجهاد في الداخل الإسلامي كفتاوى الإمام أحمد بن تيمية، متجاهلين السياق التاريخي والفقهي والسياسـي الواردة فيه، لمصلحة استحضاره وتوظيف فتاواه بما يجعل لها سلطة مرجعية حاسمة في إعلان مشـروعية الحرب والجهاد داخل المجتمعات الإسلامية المعاصـرة، ما فتح الباب أمام صعود خطاب التكفير والعنف والانغلاق، وظهور كوادر تنظيمية أساءت استخدام فكرة الجهاد، وفتحت المجال السياسـي والاجتماعي على الفتن والحروب الأهلية والصـراعات الطائفية.



ولا تزال تلك التنظيمات الجهادية تنظر إلى أنظمة الحكم في الدول العربية والإسلامية على أنها مخالفة للشـريعة الإسلامية ولا تطبق حكم الله تعالى وحدوده، ولا تقوم على القواعد والأصول الإسلامية، وتستبعد الدين في سياساتها وممارساتها وعلاقاتها الدولية، كما ترفض هذه التنظيمات مبادئ الديمقراطية والحزبية والمشاركة في العملية السياسية باعتبارها "كفراً بشـريعة الله تعالى"، وفق القيادي في التيار السلفي الجهادي الأردني أبي محمد الطحاوي.

وينطلق مفهوم التفاعلات الجارية في إطار المجتمع الدولي عند تلك التنظيمات من منظومة قيميّة معينة وزاوية معيارية محددة، بحيث تصبح قيم "الآخر" في مرتبة تالية لقيمها، ولما كانت المنظومة القيميّة لدين معين منزهة ومقدسة فلا مجال لحراك على سلم القيم هذا. وبالتالي فإن منظور التنظيمات الجهادية للعلاقات الدولية والمصالح القومية والمتغيرات السياسية يقوم على تصورات مثالية لطبيعة الإسلام ورؤيته إطاراً وحيداً لتحديد السلوك السياسـي الداخلي والدولي وأيديولوجيا دولية مرتكزة على ألوهية الله تعالى للجميع، بما فيه من تخطٍّ للسلوك السياسـي عند الأمة. وتبعاً لذلك، فإن القصور في دراسة النظام العالمي الجديد وتفاعلاته من جانب هذه التنظيمات، ومحدودية نظرتها الدينية القيمية للعلاقات الدولية، من شأنهما أن يؤديا إلى قصور موازٍ في فهم الواقع والتفاعل مع المتغيرات التي يشهدها النظام العالمي الجديد، ومن ثم فقدان القدرة على التأثير فيه، ناهيك عن تطويعه لخدمة الأمتين العربية والإسلامية.

وإذا كانت الجماعات الدينية السياسية الأخرى تلتقي عموماً، وإن اختلفت تكتيكياً، حول فكرة إقامة دولة إسلامية وتغيير هيكلية النظام السياسـي ومؤسساته وإحداث تحول اجتماعي كبير، ما يمثل في نهاية الأمر عملاً مستمراً على تغيير الأوضاع السياسية القائمة، فإن رؤية التنظيمات، التي تتبنى خط السلفية الجهادية كالقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، تختلف بدرجة كبيرة عن أجندة الجماعات الدينية السياسية الأخرى إزاء اختلافات في التكتيك والأولويات، حيث تلجأ جماعة الإخوان المسلمين، على سبيل المثال، إلى تكتيكات سياسية في سعيها إلى تنفيذ فكرة إحياء الخلافة، شـريطة وجود ممهدات لإقامتها، خلافاً للسلفية الجهادية التي تتبنى العنف تنفيذاً لما تنادي به، فيما يسعى تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى بسط هيمنته بالعنف والقتل على أي بقعة، وغزو الدول وإدخالها تحت راية الخلافة.