الجمعة 15 مايو 2015 / 23:15

الحلقة الأخيرة| "السراب".. وهم يلاحق جماعات الإسلام السياسي

أصدر مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية الدكتور جمال سند السويدي، مؤخراً كتاب "السراب"، وتتمحور فكرته الأساسية حول "السراب السياسي" الذي يترتب على الوهم الذي تسوقه الجماعات الدينية السياسية لشعوب العالمين العربي والإسلامي.

تنطلق الجماعات الدينية السياسية من قناعة بامتلاك الحق المطلق، وأنها حامية الدين في حين أن ممارساتها إقصائية عقائدياً وسياسياً

الإخوان المسلمون يضعون حسن البنا وسيد قطب في مرتبة فوقية تثير الشكوك حول مدى التزامهما بتعليمات الشـرع الحنيف، وضـرورة اتباع سنة النبي الكريم ﷺ

قادة تنظيم القاعدة والجهاديون المتطرفون أمثال عبدالله عزام وأسامة بن لادن وأيمـن الظـواهـري خرجوا من رحم جماعة الإخوان المسلمين

من دون تدارك الأخطاء والانفتاح على الآخر والتحرك نحو الحداثة والتطور العلمي والتقنيات الحديثة، سيظل العالَمان العربي والإسلامي يعانيان ظاهرة السـراب

يكشف الكتاب، عبر فصوله السبعة، حجم التضارب القائم بين فكر الجماعات الدينية السياسية وواقع التطور الحاصل في النظم السياسية والدولية المعاصرة، خاصة فيما يتعلق بمسألة التنافر بين واقع الأوطان والدول وسيادتها القانونية والدولية من ناحية، ومفهوم الخلافة الذي تتبناه هذه الجماعات من ناحية ثانية، كما يكشف هذا الكتاب علاقة الترابط الفكرية القائمة بين جماعة الإخوان المسلمين والتنظيمات المتطرفة التي ولدت في مجملها من رحم هذه الجماعة، وفي مقدمتها القاعدة وداعش.

24 ينفرد بنشر كتاب "السراب" على حلقات:

الحلقة الأخيرة

الباب الرابع: رؤيــة ختـاميـة

السراب

خامساً
نزعة الجماعات الدينية السياسية إلى إقصاء الآخر والمختلف عنها دينياً أو عقائدياً أو فكرياً أو سياسياً، بصورة تصل في بعض الأحيان إلى العنصـرية والقتل.

لقد كان من الواضح أن هذه الجماعات القائمة على الإيمان بأنها تمتلك الحق المطلق، وأنها حامية الدين والطريق لعودة المجتمع إلى أسسه السليمة، هي جماعات إقصائية من الدرجة الأولى، وانصب ذلك على ممارساتها كافة وتعاملاتها مع الغير، بدءاً من تصميمها على إقصاء الأقليات الدينية من العملية السياسية برمتها، إلى محاولات إقصاء المنادين بالدولة المدنية والحداثة، واتهامهم بصورة صـريحة أو غير صـريحة بالهرطقة والكفر والإلحاد. ومن اللافت للنظر أن تصل محاولات الإقصاء التي تمارسها الجماعات الدينية السياسية إلى خصومها ومنافسيها الذين ينتمون إلى التيار الأيديولوجي ذاته، وتوجيه اتهامات إليهم تصل أحياناً إلى درجة التكفير، والسبب المباشـر في ذلك هو الإصـرار على احتكار الدين وتفسيراته واعتبار الآخرين، من خارج الجماعات الدينية السياسية أو حتى من داخل هذا التيار الديني الواسع، غير مؤهلين أو لا يمتلكون المقدرة المعرفية على دراسة أحكام الدين وتفسيرها، فضلاً عن عدم اعتراف هذه الجماعات، بل ومناهضتها لمؤسسات دينية عريقة ضاربة بجذورها في عمق التاريخ مثل الأزهر الشـريف وتشويـه علمائه ورمـوزه.

ولا شك في أن خبرة الأعوام القليلة الماضية في العالَمين العربي والإسلامي تُظهر مثل هذه التوجهات السلبية التي لا تتفق مع أسس حقوق الإنسان والديمقراطية، والتي ظهرت حتى بصورة هزلية بين الفينة والأخرى، فلا أحد يستطيع تجاهل الصـراع الذي دار بين جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية.

 ومن عجائب الأقدار، أنه حتى بين التنظيمات الجهادية تسود نغمة الإقصاء، كما ظهر مؤخراً من صـراع الهيمنة على هذه التنظيمات ما بين تنظيم القاعدة، وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، الذي اتهم زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري بأنه انحرف عن المنهج الصحيح، بينما وصف القيادي في التيار السلفي الجهادي عمر عثمان المعروف بأبي قتادة الفلسطيني من جانبه تنظيم "داعش" بأنهم "خوارج".



سادساً
 أن الجماعات الدينية السياسية التي كان البعض يحاول تصويرها أو تصنيفها على أنها "معتدلة"، مثل جماعة الإخوان المسلمين، هي في الواقع الرحم التي ولدت منها التنظيمات الجهادية المتشددة، التي يعاني بسببها العالَمان العربي والإسلامي في الوقت الحاضـر.

ويبدو أن المنادين المعاصـرين بضـرورة الحوار مع الجماعات الدينية السياسية التي يزعمون أنها "معتدلة"، مثل جماعة الإخوان المسلمين، يتناسون أن هذه الجماعة كانت المنبع والمصدر للغالبية العظمى من التنظيمات الجهادية المتشددة التي ابتُلي بها العالَمان العربي والإسلامي خلال العقود الأربعة الماضية، فجماعة الإخوان المسلمين، التي روجت لأفكار سيد قطب الخاصة بتكفير المجتمع، وصاحبة "الجهاز الخاص" أو ما يعرف بالجهاز السـري، العنيف، هي التي أفرزت قادة تنظيم القاعدة والجهاديين من أمثال عبدالله عزام، وأسامة بن لادن، وأيمن الظواهري، وهذه الجماعة أيضاً هي من نصبت مؤسسها حسن البنا ومنظِّرها سيد قطب في مرتبة تبدو للناظر جلياً بأنها تفوق مقام سيد الخلق وأشـرف المرسلين النبي محمد ﷺ، حيث تتصدر رسائل البنا وتعليمات قطب واجهة العمل التنظيمي والحركي للإخوان المسلمين بدلاً من أحاديث الرسول ﷺ وسنته الشـريفة.



لكن المتعاطفين مع التيار الديني السياسـي، لا يمكنهم وضع غشاوة على أبصار الشعوب لإخفاء هذا التوجه التاريخي العنيف للجماعات الدينية السياسية التي يصفونها بالاعتدال، خاصة مع ما ظهر منهم من لجوء إلى العنف في دول لم تكد تتخلص من الفساد والاستبداد، كذلك، يبدو لكل ذي بصيرة ضعف حجة هؤلاء المتعاطفين فيما يتعلق بضـرورة إشـراك الجماعات الدينية السياسية في الحياة العامة في الدول العربية والإسلامية، بدعوى أن المشاركة السياسية ستحول دون توجه هذه الجماعات إلى العنف، وهي حجج تُشعر العقلاء بهذه الدول بأنهم "رهينة" لهذه الجماعات، التي تصبح ضمنياً في وضع تساوم فيه المجتمعات على حريتها حين تشترط الهيمنة على العملية السياسية، وإلا واجهت هذه المجتمعات التطرف والعنف. أضف إلى ذلك أن الجماعات الدينية السياسية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، تركز على استغلال مشاعر الشعوب العربية والإسلامية تجاه القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وتأجيج هذه المشاعر وتوظيفها لأغراض الجماعة ومصالحها في الوصول إلى الحكم والسلطة، كما فعلت، ولا تزال، حركة "حماس" في قطاع غزة، حيث تسببت في تردي الأوضاع المعيشية لأهالي القطاع، فضلاً عن شق الصف الفلسطيني والزج بالقضية في أتون الصـراعات الداخلية من دون إحداث أي تطور نوعي على صعيد التسوية السياسية أو العسكرية للقضية.

سابعاً
توصلت الدراسة الميدانية التي أوردت نتائجها في الفصل السابع إلى نتائج عدة مهمة، حيث رأى المستطلعة آراؤهم أن أهم التحديات التي تواجه العالَمين العربي والإسلامي هي بالترتيب: الأوضاع الاقتصادية، ثم تحقيق الأمن والاستقرار، ثم محاربة التطرف الديني، والفساد المالي والإداري، وهذه النتائج تتسق مع نتائج استطلاع الباروميتر العربي الذي أجري في 11 دولة عربية.

كما يعتبر أغلب أفراد العينة أنفسهم متدينين، وقد أفادوا بأنهم يلتزمون التزاماً كبيراً بالعبادات، ليتوافق الاعتقاد مع الممارسة، وبرغم تدين معظم أفراد العينة، فإنهم يرون أنه يجب ألا يكون لرجال الدين نفوذ على قرارات الحكومات، كما يؤيدون فصل الدين عن الحياة السياسية، بمعنى أنهم لا يميلون إلى أنظمة الحكم ذات الصبغة الدينية، والغالبية العظمى ترى وجوب صياغة القوانين بحسب رغبات الشعب في بعض المجالات وبحسب الشـريعة في مجالات أخرى.



كما أظهرت النتائج أيضاً عدم وجود معرفة كبيرة لدى الجمهور بالجماعات الدينية السياسية بصفة عامة، وسجلت أعلى معدلات المعرفة لديهم بجماعة الإخوان المسلمين، ثم السلفيين، والتنظيمات الجهادية وفي مقدمتها القاعدة وداعش. كما ترى غالبية العينة أن تجربة الجماعات الدينية السياسية في بعض البلدان العربية في الحكم كانت فاشلة، فيما ترى نسبة ضئيلة جداً أنها كانت تجربة ناجحة. وترى الغالبية العظمى من أفراد العينة أن فرص هذه الجماعات في الحكم أو في الحياة السياسية تبدو ضعيفة في ضوء نتائج وصول بعض الأحزاب السياسية الدينية إلى الحكم في بعض البلدان العربية، وبعد تقييم حكم هذه الجماعات الدينية، وما شهدته من إخفاق سواء في ظل حكم الإخوان المسلمين في جمهورية مصـر العربية وعدم نجاح حزب حركة النهضة في إدارة شؤون الحكم في الجمهورية التونسية.

وتوضح هذه النتائج أن الجماعات الدينية السياسية لم تستوعب أولويات مجتمعاتها، كما لم تفطن إلى مغزى التدين الفطري الذي تتسم بهذه المجتمعات، وأنه لا يعني بالتبعية ميلاً إلى بناء نموذج ديني في الحكم وفقاً لمنهج الجماعات الدينية السياسية، حيث تشير نتائج الاستطلاع الواردة ضمن الفصل السابع إلى مفارقات ينبغي الانتباه إلى دلالاتها وأبعادها من قبل الباحثين والدارسين، حيث تصدّر الوضع الاقتصادي، بما يشمله من فقر وبطالة وفساد وغلاء، أهم التحديات التي تواجه العالم العربي من وجهة نظر المستطلعة آراؤهم من المواطنين والعرب المسلمين المقيمين بدولة الإمارات العربيـة المتحدة، تلاه تحقيق الاستقـرار والأمن، ثم محاربة التطـرف الديني، والفسـاد المالي والإداري. وقد يكـون من بـاب المفـارقـة أن هـذه الأولويات على ترتيبها الحالي، أو حتى بترتيب مغاير، لم تكن تحظى بالأهمية ذاتها ضمن أجندة قادة الجماعات الدينية السياسية التي تولت الحكم في دول عربية وإسلامية عدة في الآونة الأخيرة، حيث سبقتها قضايا واهتمامات لا علاقة لها بحياة الشعوب ومعاناتها مثل السيطرة على مؤسسات الدول ومحاولة الهيمنة واحتكار السلطة والتمدد السياسـي والاجتماعي وغير ذلك. وهذه النتائج تتفق تماماً مع ما رصده مشـروع الباروميتر العربي وتؤكده، ولا سيما فيما يتعلق بالتراجع الملحوظ في شعبية الجماعات الدينية السياسية، وإدراك الشعوب العربية والإسلامية حقيقة هذه الجماعات وما ترمي إليه من مصالح سياسية وأهداف ذاتية لا علاقة لها تماماً بأهداف هذه الشعـوب ومصالحهـا.



ندوب عميقة 
وكان واضحاً من نتائج الاستطلاع أيضاً، أن تجربة السنوات الماضية قد خلفت ندوباً عميقة في الوعي الجماعي العربي والإسلامي، حيث حجب المستطلعة آراؤهم ثقتهم عن الجماعات الدينية السياسية تماماً، بل إن تفضيلاتهم لأنظمة الحكم قد دفعت بالرغبة في حكم هذه الجماعات إلى أسفل قائمة طويلة من الخيارات والبدائل، فيما انعكست هذه التجربة أيضاً على توجهات المستطلعة آراؤهم فيما يخص تجارب حكم الجماعات الدينية السياسية في بعض البلدان العربية والإسلامية، واعتبروا أنها كانت فاشلة. ولذا يبدو من الطبيعي أن يكون تصور عينة الاستطلاع لمستقبل هذه الجماعات، سواء في الحكم أو في الحياة السياسية، قاتماً.

وهذه النتائج تبرهن على زيف ادعاءات قيادات الجماعات الدينية السياسية وإصـرارهم على تبني خطاب "المؤامرة"، وأن هناك أيادي خفية عملت ضدهم وأسهمت في رفض الشعـوب لهـم، ما يعنـي استمرار نهج تلك الجماعات في الهروب من الحقائـق وعـدم امتلاكها الجرأة الكافية للمكاشفة ونقد الذات، واستلهام الـدروس واستنباطهـا من التجارب السابقة، وآثرت مواصلة لعب دور "الضحيـة" والعزف على وتر المظلومية التاريخية برغم تباين الظروف والمعطيـات.

وفي النهاية، يثار تساؤل مهم ومحوري في سياق ما تعرَّض له هذا الكتاب من أفكار وآراء بشأن الجماعات الدينية السياسية: إذا كانت الخبرة الراهنة توضح بصورة جليَّة أن سيطرة الجماعات الدينية السياسية، وقبول المجتمعات لحكمها، ونجاحها في الإدارة وتحقيق طموحات التنمية والحداثة، هو من قبيل السـراب، فهل من المنتظر أن تكون هذه الخبرة الراهنة مؤشـراً إلى نهاية هذه الجماعات وأفولها وعدم تكرار تجاربها الفاشلة مرَّة أخرى على الأقل في المديين القريب والمتوسط؟ الإجابة الواقعية هي: لا، إلا بشـروط.

فشل متكرر
فمن جانب، وعلى الرغم من أن الخطر الذي يتعرض له الدين في العالَمين العربي والإسلامي على يد الجماعات الدينية السياسية، كما سبقت الإشارة إليه، أشد وأقسـى من الخطر الناجم عن أعدائه وكارهيه في الخارج، فإن بعض الممارسات المثيرة للجدل في عدد من الدول الغربية تعطي دعماً لفكرة الانعزال والاضطهاد والانكفاء على الذات التي تروج لها الجماعات الدينية السياسية. فكما أظهرت خبرة السنوات القليلة الماضية، أدّت ممارسات، مثل حظر الأنواع المختلفة لغطاء الوجه، ومنها النقاب والحجاب، في الجمهورية الفرنسية إلى رد فعل سلبي وقوي في العالَمين العربي والإسلامي، كذلك أدت قرارات مثل حظر بناء المآذن في الاتحاد السويسـري، وقضية الرسوم المسيئة للرسول ﷺ، ومنع الذبح الحلال (على الطريقة الإسلامية) في الدول الإسكندنافية، إلى ردود فعل سلبية ربما أقوى وأشد في العالَمين العربي والإسلامي، وإلى إظهار التأييد والتعاطف مع الجماعات الدينية السياسية المتشددة التي تستغل الدين لأغراض سياسية وانتهازية ولمصالحها التي قد تتعارض مع مصالح المجتمع وتقدمه وتطوره.



ومن جانب آخر، يرى الباحث الأمريكي شادي حميد، أن هناك من وجهة نظر الجماعات الدينية السياسية "فشلاً مختلفاً وأعمق، من المتوقع أن يصيب العالَمين العربي والإسلامي لعقود مقبلة، هو: عدم القدرة الأساسية لنظم الدولة المدنية على التعامل مع مساهمة الجماعات الدينية السياسية في العملية السياسية".

ومثل هذا المنطق الذي يروج له بعض الكتّاب الغربيين، يمكن الرد عليه من خلال الخبرة التاريخية لأوروبا، وربما ما قد تشهده بعض دولها مستقبلاً، بأنه كانت هناك تيارات يمينية متطرفة، مثل النازية والفاشية، حازت قبولاً وتعاطفاً شعبياً معها أدى إلى وصولها إلى الحكم بصورة ديمقراطية، لكن العالم يعلم الآن جيداً، ومن خلال الخبرة التراكمية القاسية، أن قبول نماذج أو صيغ سياسية مثل "الديمقراطية المقيدة"، بحسب ما يصفها شادي حميد، كانت له تبعات وخسائر شديدة التعقيد، ليس على الدول التي تقبَّلت وجود مثل هذه النظم فقط، لكن على العالم أجمع. كما أن هذا المنطق يستدعي في المقابل التساؤل عن إمكانية قبول الشعوب الغربية في الوقت الراهن، حكماً أو نظاماً سياسياً تتولاه تيارات يمينية متطرفة، تمتلك الأفكار ذاتها أو أخرى مشابهة ومناظرة لما تؤمن به الجماعات الدينية السياسية في العالَمين العربي والإسلامـي.

علامات استفهام
وهذه الرؤية الغربية للجماعات الدينية السياسية، تقود بدورها إلى تساؤلات حول العلاقات التي تجمع بين جماعة الإخوان المسلمين والولايات المتحدة الأمريكية، وهي علاقة مثيرة للتساؤل، بحكم موقع الأخيرة على قمة النظام العالمي الجديد وقيادتها له، ما يفرز بدوره علامات استفهام حول العوامل التي أقنعت الحكومة الأمريكية بتأييد نظام حكم الإخوان المسلمين في جمهورية مصـر العربية، والضمانات التي قدمها الإخوان المسلمون إلى الإدارة الأمريكية للحصول على هذا التأييد، ومن بينها بطبيعة الحال، الاستعداد للاعتراف بالاتفاقيات الموقعة بين الحكومات المصـرية السابقة وإسـرائيل، وكيف يمكن تقييم هذه العلاقة من وجهة النظر العقائدية لجماعة الإخوان المسلمين؟ ثم كيف يتعارض سلوك الإخوان المسلمين في هذا السياق مع تعاليم مؤسس الجماعة حسن البنا؟

وبغض النظر عن ملابسات هذه العلاقات، فإنها مؤشـر حيوي إلى تجذر الانتهازية السياسية في سلوك جماعة الإخوان المسلمين، كما لا يثير موقف الولايات المتحدة الأمريكية الداعم لجماعة الإخوان المسلمين استغراب كثير من المتابعين للسياسة الأمريكية، فهناك سوابق تاريخية تؤكد استعداد واشنطن للتعامل مع أي جماعة دينية سياسية ترى أنه تحقق أهدافها ومصالحها في المنطقة. فضلاً عن أن العلاقات بين الإدارة الأمريكية وجماعة الإخوان المسلمين تحديداً ليست جديدة، فهناك لقاءات وتنسيق مشترك بين الجانبين منذ أن كانت الجماعة تشكل الكتلة الرئيسية للمعارضة في مجلس الشعب المصـري الذي انتخب في عام 2005م في ظل ضغوط مباشـرة من إدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن، حيث عقدت لقاءات رسمية بين أعضاء الجماعة في المجلس ووفود برلمانية أمريكية، بالإضافة إلى لقاءات أخرى غير رسمية لم يتم الإعلان عنها لاعتبارات خاصة بمصلحة الطرفين، ثم تعزز هذا التنسيق عقب أحداث 25 يناير 2011م، حيث دعمت الإدارة الأمريكية الجماعة في الوصول إلى السلطة، في محاولة إلى استيعاب نتائج ما حدث بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك حتى لا ينتهي الأمر إلى ما يهدد مصالحها في منطقة الشـرق الأوسط، مثلما حدث مع الثورة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979م التي أنتجت نظاماً مناهضاً للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة.



ضعف الوعي 
ضعف الوعي والتعليم في العالَمين العربي والإسلامي يغري الجماعات الدينية السياسية بإعادة إنتاج ممارساتها وغسل سمعتها وتكريس "المظلومية" ولعب دور "الضحية" مجدداً، لكن في هذا الإطار، ومن منطلق استمرار طرح الجماعات الدينية السياسية لفكرة تقبُّل فكرها وضـرورة وجودها، بل وتحوير الديمقراطية لتتناسب مع أفكار هذه الجماعات ومبادئها، تتضح لنا إحدى أهم صفات مثل هذه الجماعات التي تساعدها على الاستمرار برغم الفشل المتتالي، وهي: الاحترافية في لعب دور الضحية، وادعاء أنه لا يمكن الاستغناء عنها لأنها تفي بمطلب شعبي وجماهيري. ومثل هذا الدور الذي تحترفه هذه الجماعات، يجعلها مع مرور الزمن، ومع الخفوت التدريجي للصورة السلبية التي رسمتها بتجربتها العملية في تولي دفة الحكم، قابلة للعودة مرّة أخرى، مثلما حدث في عام 1976م، حين عادت جماعة الإخوان المسلمين إلى المشاركة السياسية بعد تولي الرئيس المصـري الأسبق محمد أنور السادات الحكم، وطي صفحة الملاحقة الأمنية لها خلال الحقبة الناصـرية، كما أن الجماعة صعدت بشكل غير مسبوق على الساحة السياسية عقب فترة تحجيم واحتواء لنفوذها ودورها، خلال فترة حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، وتولت السلطة في جمهورية مصـر العربية عام 2012م. وما يعزز مثل هذه الفرضيـات، هو وجـود مجتمعات ليست على درجة عالية من التعليم والخبرة بالممارسـة الديمقراطية، وتتعاطف بصورة تلقائية مع كل ما ارتبط اسمـه بالدين.

وهذه النقطة الأخيرة تقودنا إلى نقطة أخرى أهم وأكثر تأثيراً في تحديد مستقبل الجماعات الدينية السياسية، وهي البديل لها. فيلاحظ بالنسبة إلى العديد من الدول العربية والإسلامية أن البديل لمثل هذه الجماعات هو تيارات قد لا تتميز بالمرونة، ولا بخبرة الحكم الفعال الذي يمكن أن يخرج هذه الدول من مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتراكمة عبر عقود طويلة من الزمن، والتي هي المحك الأساسـي، والحَكَم النهائي لقبول الجماهير مثل هذه النظم والتيارات.

فمع التعقد البالغ للمشكلات والتحديات التي تواجه العديد من الدول العربية والإسلامية، ومع محدودية الإمكانيات المتاحة، وتزايد تطلعات شعوب هذه الدول إلى مستويات معيشية أفضل، وفي ظل منافسة متزايدة باطراد من دول العالم كافة على التنمية والتقدم في إطار العولمة، من المتوقع أن تؤدي عثرات محتملة لمثل هذه النظم البديلة، إلى عودة بعض الشـرائح المجتمعية إلى النظر للحركات والجماعات الدينية السياسية على أنها قد تكون البديل الأفضل، متناسية فشلها السابق وعدم قدرتها على تطوير أفكارها وعلى وضع استراتيجيات وسياسات وبرامج اقتصادية فاعلة في معالجة المشكلات المعيشية للمجتمعات.

كذلك، يتعين ألا ننسـى أن الوقت الراهن يشهد أدنى شعبية للجماعات الدينية السياسية في العالَمين العربي والإسلامي، حيث تشير الشواهد إلى تراجع شعبيتها بصورة غير مسبوقة، خاصة بعد الخبرة السيئة لحكم جماعة الإخوان المسلمين في جمهورية مصـر العربية والجمهورية التونسية وغيرهما من الدول في العالَمين العربي والإسلامي.



دور الضحية 
وفي ضوء ذلك، حتى يتم تفادي تأثير الزمن الذي يمكن أن يُنسـي الشعوب مساوئ هذه الفترة وعيوبها، وأن تحاول الجماعات الدينية السياسية التحايل التدريجي على الجمهور لإظهار ذاتها بكونها ضحية، لا بد من أن يكون التحرك قوياً وفاعلاً لملء الفراغ الراهن الذي تركته هذه الجماعات، من خلال التوعية والقيام بالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحقيقية في التعليم والإعلام والاقتصاد والثقافة وصولاً إلى الخطاب الديني وأنماط التنشئة الاجتماعية، بما يؤدي تدريجياً إلى تحقيق التنمية الشاملة وإيجاد فرص العمل المناسبة للشباب، وبما يرفع من مستويات المعيشة ويحل المشكلات الصعبة التي تواجه العديد من الدول العربية والإسلامية، التي لن يمكن القضاء على التطرف والأفكار المتعصبة فيها من دون ذلك. فالآن تبدو البيئة مناسبة لفهم حقيقة الجماعات الدينية السياسية وإسدال الستار على ملف هذه الجماعات.

ولعل الحديث عن مستقبل الجماعات الدينية السياسية يرتبط برؤيتها للعالم من حولها وقدرتها التنظيمية التي تشتهر بها، فقد ربطت هذه الجماعـات هويتهـا ووجودهـا ذاتـه بمحاربـة من تعتبرهـم "كفاراً" وأعـداء، مستهدفة الغرب والولايات المتحدة الأمريكية وإسـرائيل تحديـداً، ما يطرح بدوره تساؤلات بديهية حول مشـروعية وجود هذه الجماعات في حال انتفاء هذا المبرر الوجودي، سواء بسبب تغير سياسات الغرب المستهدف من قبلها أو بسبب بروز مصالح مغايرة لها مع تلك القـوى أو الدول.

وفي ضوء ذلك، قد يعاني العالَمان العربي والإسلامي مستقبلاً استمرار "السـراب" بشقيه: جماعات وحركات دينية سياسية تسعى إلى سلطة لن تستطيع إدارتها بكفاءة في ظل جمود للأفكار وبعد عن الواقع وعدم إدراك لتحديات العصـر؛ بما يؤدي إلى بعد السلطة عنها كلما اقتربت من الوصول إليها، ومؤيدون يرون في الجماعات الدينية السياسية أملاً في الخروج من مشكلات الحياة اليومية وفي النمو والرخاء بناءً على وعود من هذه الجماعات التي تتلاعب بمشاعر الجماهير المتدينة بطبيعتها، لكنها تصطدم في النهاية بحائط الواقعية والحاجة إلى الحداثة التي تفتقدها هذه الجماعات.

لكن لا يزال هناك بطبيعة الحال أمل في أن تدرك الشعوب العربية والإسلامية أنه ليست هناك حلول سحرية غير واقعية للمشكلات التي تواجهها، وأن عليها الانفتاح على الآخرين والتعلم من تجاربهم للاسترشاد بأسس النجاح وتفادي السلبيات من هذه التجارب، فمن دون الانفتاح على الآخر ومن دون التحرك نحو الحداثة والتقدم العلمي والاختراع والإبداع والابتكار، وإطلاق طاقات التجديد والبحث والإصلاح والاجتهاد في الفقه الديني والعلوم الإسلامية، وتجاوز الجمود والتحجر الذي سيطر على فكر الجماعات الدينية السياسية التي تسعى إلى الحكم والسلطة، سيظل العالَمان العربي والإسلامي يعانيان ظاهرة "السـراب".