تونسيون يتظاهرون في شارع بورقيبة يوم هروب الرئيس زين العابدين بن علي في 14 يناير 2011 (أرشيف)
تونسيون يتظاهرون في شارع بورقيبة يوم هروب الرئيس زين العابدين بن علي في 14 يناير 2011 (أرشيف)
الخميس 17 ديسمبر 2015 / 18:44

إذا كان هذا ربيعنا فكيف سيكون صيفنا العربي؟

يحتفل المرء في العادة بعيد ميلاد أو ذكرى من يحب أو بصدى حدث سعيد، وفي العادة تكون الذكريات مدعاة سعادة، ولكن نصيبنا منذ 17 ديسمبر(كانون الأول) أنهار من الدموع والدمار والخراب والدماء، ومع ذلك لا يتورع البعض أو يستحي فيُحدثنا عن "ربيع عربي" وعن حلم تحقق.

في مثل هذا اليوم منذ خمس سنوات، وفي شارع مغمور من شوارع مدينة سيدي بوزيد، وسط غرب تونس، بدأ كل شيء، أخرج محمد البوعزيزي في سورة غضب ويأس علبة ثقاب من جيبه، وأضرم النار في نفسه، وفي العالم العربي بأسره، تقريباً.

مضى البوعزيزي بعد أيام إلى قبره، وهرب زين العابدين بن علي من قصره إلى المنفى، وترنح بعده مبارك في مصر، وتبعه القذافي ليلقى حتفه في قناة صرف مهجورة في مدينة سرت الليبية، معقل داعش اليوم.

وانهار اليمن وتسلل الخراب في أفظع صوره إلى سوريا، واندلعت حروب في منطقتنا من ليبيا إلى العراق وسوريا وصولاً إلى اليمن، وتدافعت جيوش العالم من الشرق والغرب إلى المنطقة، من روس وأمريكيين وإيرانيين وغيرهم، وتدفقت جحافل المليشيات والقتلة والإرهابيين من مختلف أنحاء العالم على المنطقة العربية والأحزمة المحيطة بها، وفي غمة التدافع والتزاحم ضاعت فلسطين أكثر تحت الأرجل، وانقض الإخوان على السلطة يحاولون توجيه المستقبل العربي في أكثر من دولة، وفق إرادة التنظيم الدولي وعصابة الظلام القائمة عليه.

وفي الأثناء دفعت شعوب المنطقة العربية بسبب هذا "الربيع" أكثر من 833 مليار دولار كما كشفته دراسة المنتدى الإستراتيجي العربي في دبي الذي نشرها أخيراً، والعداد لم يتوقف بعد عن الدوران، من أموالها ومن مستقبل أبنائها وأحلامها في التقدم والنماء والاستقرار، وبدل الاستثمار في التعليم والصحة مثلاً أثمر هذا الربيع المشبوه استثمارات في الأحزمة الناسفة والعمليات الانتحارية والقتل والدمار والتكالب على السلطة، بفضل داعش والقاعدة وبوكو حرام وبفضل طالبان والإخوان والتحرير والتبليغ وغيرها من الأسماء لشركة واحدة ومؤسسة ظلامية واحدة ترعرت في دجى الحقد وظلام التآمر.

ومنذ أن انتحر البوعزيزي، لم ترغب أطراف كثيرة في رؤية الحقائق على طبيعتها، ولاتزال ترفض القمقم الذي خرج من محبسه ليفتك بجسد العالم العربي ويُهدد كيان دوله وشعوبه ومستقبل المنطقة، تحت عباءة "الحرية" مرة، والدين مرة أخرى، والإرهاب في السنوات الأخيرة الماضية.

وبالاعتماد على نتائج الدراسة المشار إليها، وفي انتظار إثبات العكس أو تفنيده وبدل أن يأتينا الربيع بولادة جديدة، أخذ منا حتى اليوم أكثر من مليون بين قتيل وجريح بسبب الحروب والإرهاب، وبعد سقوط "أنظمة فاسدة" التهم الربيع حوالي نصف مليار دولار، كانت في طريقها لإقامة مدارس وجسور وطرقات وجامعات ومستشفيات وغيرها من الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية، وحرمنا كنوزاً ومعالم ثقافية وتاريخية تفوق في عظمتها وفي قيمتها كنوز الدنيا في العراق أو في سوريا وربما غداً في ليبيا وفي تونس، وكلفنا وكلفنا وكلفنا، ولا يبدو أنه سيتوقف قريباً عن إجبارنا على دفع الفاتورة الباهظة سنوات أخرى ربما.

اليوم وبعد هذه السنوات الخمس، اليوم واللاجئون يتدفقون من كل مكان إلى مكان ولامكان في العالم يتسع لهم أو يسعهم، وبين موجة الخراب العاتية وهوة الرعب التي نوشك على التردي فيها، تطالعني صورة جثة الطفل ايلان كردي على الشاطئ التركي، وصورة البوعزيزي المحترق، ويُداهمني السؤال الذي يُمكن للطفل الغريق أن يوجهه للشاب المحترق، لو كتب لهما اللقاء في عالم آخر، لماذا يا عمو قتلتني حتى قبل أن أولد.

فإذا كان الربيع المتواصل بهذا الشكل منذ سنوات خمس، فإني أتساءل كيف وبأي شكل سيكون الصيف الذي سيخلفه؟