الإثنين 20 يونيو 2016 / 19:29

وجوه "رينيه ماغريت"

ما فعله الرسام ماغريت جعل التخمين يأخذ دوره بالظهور، فخرجت التفاسير المختلفة، ولوحة "ابن الإنسان" المغطى بتفاح أخضر، هي أكثر اللوحات حظاً في التكهن والتخيل.. فهل ترمز التفاحة إلى آدم والإنسان الأول، خاصة أن اللوحة إسمها ابن الانسان.. أو لربما هي خطيئة الإنسان المستمرة في تكرار هذا الإنجاب واستمرار المعصية!

تجعلك لوحات الرسام البلجيكي رينيه ماغريت مشدوداً إليها، تلفت نظرك إلى درجة أنك لا تريد تركها، ففي معظمها شخوص عصرية مرسومة بدقة متناهية، لكنها بلا وجه، يرسم ماغريت أقمشة بيضاء على وجوه من يرسم من نساء ورجال، يتصرفون بشكل طبيعي ويمارسون أعمالاً، يتحاورون، يتجملون، ليبقى القماش الأبيض حاضراً في كل لوحة ولا وجود لملامح الوجه.

وللوحة "ابن الإنسان" غطاء من نوع آخر تفاحة خضراء تخفي ملامح الوجه، رغم أنه يبدو رجلاً عصريًا ومتمدنًا ومتزنًا.. يعتمر قبعة وعلى أكمل هيئة بلباسهِ وسلوكهِ الحضاري.. ومع ذلك تستوقف اللوحة كل من يراها، ويسأل سؤاله المعتاد، لماذا فعل الرسام ذلك؟ وما الذي يخفيه الوجه؟!.

ما فعله الرسام ماغريت جعل التخمين يأخذ دوره بالظهور، فخرجت التفاسير المختلفة، ولوحة "ابن الإنسان" المغطى بتفاح أخضر، هي أكثر اللوحات حظاً في التكهن والتخيل.. فهل ترمز التفاحة إلى آدم والإنسان الأول، خاصة أن اللوحة إسمها ابن الانسان.. أو لربما هي خطيئة الإنسان المستمرة في تكرار هذا الإنجاب واستمرار المعصية!.

كل هذا التخيل والتنبؤ لم يأتِ من ثياب الرجل العصري، بل من وجهه الآخر المستور الذي لا يظهر لنا.

التفاحة على الوجه جعلت منه شخصية مجهولة، رغم أنه يبدو مطمئناً، يقف وهو محتفظ برباطة جأشه، وظهره المستقيم يدل على أنه صاحب شجاعة ومبادئ.. والقبعة التي يعتمرها لدلالات المعرفة والثقافة والحشمة، فالقبعة كما العمامة عند العرب، تميز طبقته ومكانته الاجتماعية، والأهم هويته.

ورغم أن الرجل في لوحة ابن الإنسان يبدو فيه واضحاً وإنسانياً، لكن الغموض ما زال يكتنفه.. فما معنى أن نحجب الوجه؟.. ففي جميع الثقافات لكل إنسان وجه نراه يقبل علينا، وإن كانت له أوجه أخرى، يبقى الغالب فيه أنه ذو وجه كاشف وشفاف يروي أحياناً ما لا يريده وما لا يقال، لما في الملامح من دلالات مخبوءة في الصدر والقلب، وشواهد وبراهين لما ترك الزمن عليه من أحداث مريرة أو سعيدة.. فالوجه عنوان مضيء يتحدث، أو خافت بلا حكايا.

في بروكسل العاصمة البلجيكية افتتح "متحف رينيه ماغريت" منذ سنوات ليست ببعيدة، تكريماً له ولما قدم من فنٍ فكري مغاير عن سابقيه، لوحاته السريالية هناك والتي حجب فيها وجوه النساء والرجال.. تستحق الرؤية لأنها تُشغل حديث كل من يراها بحثاً لمعرفة المخبوء.

الفنان ماغريت كان يعاني ومنذ طفولته من انعكاسات وفاة والدته غير السعيدة عليه، والتي اختارت أن تنهي حياتها بنفسها، لترمي بجسدها في النهر.. انتشلوها بعد أيام وجزء من ثيابها قد غطى وجهها، رآها وهو طفل، ولم يغب عن ذاكرته ذلك الوجه الذي لم يره، حيث لم يرفع له غطاء القماش الأبيض عن وجهها، مراعاة لعدم قدرته على التحمل ولطفولته البريئة.

عبّر ماغريت بعد أن أصبح رساماً عن وجوه الشخوص في لوحاته، لعدم نسيانه وجه والدته الميتة، لذا أتوقع أن ذاكرته ظلت في خيال مستمر وهو ينمو، يتخيل تعابير أمه ما قبل الاحتضار والموت، فهل كان الهلع هو شعورها الأخير؟.. أم أن لخروج الروح مهابة لم يتوصل إلى تخيلها أثناء الغرق؟.. أم كانت مستسلمة بأريحية متناهية أثناء الموت، لاختيارها ورغبتها في الرحيل إلى الفناء الأرحم؟.. ليخوض الرسم في بلوغه، وبكثافة، مغطياً وجوه الناس، يخمن ما وراء هذه الأجساد الواضحة جداً، لغز الوجه وما يحدثه من تغيير جهوري وجوهري فينا وبيننا.

الوجه الذي أخفاه ماغريت في لوحة "ابن الإنسان" ستر فيه فعال الإنسان، وتكرار وجوده في هذه الحياة، إنسان يأتي إلى العالم معلباً وبكميات كثيرة لا معنىً فعلي له، جموده بلا فرادة، يأتي ويذهب دون أثر.. وجوه معاد ومكرر وبالتالي ميت رغم تنفسه، فلماذا الكشف؟.. إرتأى رينيه ماغريت في فلسفته، بقاء الغطاء على هذا التكرار، كي لا نتشوش، ونعيش بلا ضجيج وبلا خلل، وليدع هذا العبث مغيباً بالغطاء.