الأربعاء 16 نوفمبر 2016 / 19:12

الإمارات وطن التسامح.. الميثاق والمسيرة

‎ربما أبدى بعض الناس استغرابهم عندما أعلن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عن إنشاء وزارة جديدة للتسامح، لكنّ الأمر لم يكن مثار استغراب البتة في مجتمع الإمارات الذي تأسس باكرا على التسامح، بل إنّ هذا المجتمع رأى أنّ إنشاء الوزارة تلك يندرج في إطار الحتميات الفكرية والمجتمعية ويجيء تتويجا لمسيرة تاريخية حافلة صار في وسع المؤرخ الحصيف أن يرصد معالمها ومعطياتها. لذا، لم يكن إنشاء وزارة للتسامح أمرا يبعث على الاستغراب، إذ ألفنا التسامح وعرفناه منذ نعومة أظفارنا وتشكل وعينا الإنساني في سياقاته المتفتحة.

‎فنحن في دولة الإمارات، ومنذ أن أعلن عن قيامها في الثاني من ديسمبر(كانون الأول) 1971، ننظر إلى الدولة على أنها ثمرة من ثمار الفكر المتسامح الذي ظل الراحل الكبير المغفور له الشيخ زايد يصدر عنه. ومن يقرأ سيرة الشيخ زايد، يدرك أنها سيرة يشكل التسامح عنوانها وجوهرها. والتسامح الذي كان الشيخ زايد يصدر عنه، متصل بجوهر الإسلام الذي آمن الشيخ زايد أنه دين الرحمة والحنان الذي يرفض إلحاق الأذى بمخلوقات الله كلها من إنسان وحيوان ونبات، وهو الدين الذي يرى مزايا الناس وإيجابياتهم ولا يتعقب أخطاءهم لأنّ "كلّ ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوابون".

‎لذا بنى الشيخ زايد دولة قامت على التسامح في كل مناحيها وكان شعاره الدائم يتمثل في العفو عند المقدرة والصفح الجميل وعدم رد الإساءة بالإساءة والترفع عن الصغائر والسمو بالمجتمع إلى مستويات إنسانية رفيعة. وقد ظل الشيخ يردد قول الله في كتابه الكريم: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة. ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم".

‎وقد كان الشيخ زايد يمتلك الكثير من الحلول للمشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لكنّه يؤثر الحلول المنبثقة من التسامح، وكانت النتائج تبعث على الدهشة. ولم يكن ذلك غريبا على الشيخ زايد الذي يشف كالبلور الصافي عما بداخله، فيأسر العقول والقلوب.

ولم يكن التسامح فكرة مجردة، بل مشهدا قائما في الحياة ومبدأ حاضرا في الواقع، وخلقا كريما عند زايد، فالنفوس الكبيرة وحدها تعرف كيف تسامح ومتى، ذلك أن التسامح ليس جوهرا أصيلا في بناء الدولة فحسب بل هو جزء من العدالة. وركن أصيل من أركانها.

‎وقد استمرت دولة الإمارات في هذا النهج الحضاري المتفتح، فأصدرت البرنامج الوطني للتسامح وسارت في درب التنوع والانفتاح الديني وحاربت التمييز وثقافة الكراهية التي تقسم المجتمع إلى طوائف ومذاهب وملل، وتخرب النسيج الوطني للمجتمع، وها نحن اليوم نشهد إنجازا إماراتيا غير مسبوق مع اجتماع أئمة الإمارات في العاصمة أبوظبي وتوقيعهم جميعا على "ميثاق التسامح" وتعهدهم بقراءة قانون نبذ الكراهية والعمل قولا وفعلا بموجب ما ورد فيه من مواد من شأنها حماية دولة الإمارات ومجتمعها من شر الفتن ونيران التعصب وشرور التشدد والتعصب والانغلاق.

‎وفي هذا السياق، جاء جامع الشيخ زايد الكبير منارة دالة على التسامح في معماره الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة والعراقة والحداثة والذي يفتح أبوابه للمسلمين وغير المسلمين ليطلوا على الدين في أرقى تجلياته الجمالية وعلى الجمال في تجلياته الدينية، ولا شك أن الجامع بحلته البيضاء النقية تؤشر على أبوظبي المدينة التي يعيش فيها الناس، كما في كل ركن من أركان الدولة، باطمئنان وحب وائتلاف يقوم على التسامح أولا وأخيرا.

‎لقد قامت الحضارات العظيمة في ظلال التسامح وكان الأديب والناقد الألماني لسنج(-1781) من كبار المدافعين عن التسامح الديني في القرن الثامن عشر وقدم في مسرحيته "ناتان الحكيم" مشهدا عرف بمشهد الخواتم الثلاثة، وفي الجزء الأساسي من المسرحية يتساءل صلاح الدين عن الدين الصحيح ، وبدلا من الإجابة المباشرة يحكي له ناتان الحكيم اليهودي، قصة الأب الذي كان يمتلك خاتما جميلا وكان يورثه لابنه الكبير. ثم تصادف أن كان للأب صاحب الخاتم ثلاثة أبناء، وكان يحبهم بنفس القدر، فقام الأب بعمل خاتمين متشابهين تماما للخاتم الأصلي، وأعطى كل واحد من أبنائه الثلاث خاتما. فبعد موت الأب تشاجر الأخوة حول من هو صاحب الخاتم الحقيقي، فأوصلهم النزاع إلى القاضي، غير أن القاضي لم يستطع اكتشاف الخاتم الحقيقي، فأعطى الأخوة الثلاثة النصيحة التالية: "على كل واحد منكم أن يؤمن بكل جد أنه يملك الخاتم الحقيقي، وبالتالي عليه أن يبدل كل جهده من أجل ذلك بواسطة الأخلاق الحميدة وعمل الخير، وأضاف: كل واحد منكم عليه أن يرى القوة في خاتمه، والقوة في إنسانيته، وتسامحه، وعليه أن يعمل خيرا وأن يكون مخلصا لله، ومسلما لإرادته، ولا بد أن تظهر قوة الخاتم هذه في أبنائكم، وأبناء أبنائكم على مر السنين. ونحن نشاهد ما الذي يفعله التعصب ونرى نتائجه المدمرة راي العين.

هناك صور كثيرة ومتعددة تعكسها مرايا الواقع العالمي المعاصر، منها صور كريهة تمتلئ بالكراهية والسلبية وتحتشد بالعنف والقتل، ومنها صور منيرة مشرقة تبعث على الإيجابية والتفاؤل مثل صورة جميع جنسيات الأرض وأديانها ومعتقداتها وهي تجوب شوارع دبي اليوم بمناسبة اليوم العالمي للتسامح، وهي الصورة الحقيقية التي نريد إيصالها إلى العالم وأن نراها في مرايا الذات، فبمثل هذه الصور والوقائع التاريخية المشرقة يبدأ بناء المستقبل، وتتبدد غيوم الكراهية والحقد والعنصرية والتعصب، لتحل محلها الشمس الوحيدة التي تستحق أن تتوق إليها الأبصار، شمس المحبة والتسامح التي تشرق من الإمارات على جميع البشر دون إقصاء ولا تمييز.