الإثنين 20 فبراير 2017 / 19:40

بورتريه لـ "أنا وليلى"

الحكاية معروفة ولها رواية واحدة، لكنَّها تتوفر بطبعات متعدِّدة في جِراب السيِّد "غوغل"، وهذه طبعة مزيدة: قبل ستة وثلاثين عاماً بدأت على مقعد خشبي في كلية الآداب بجامعة بغداد، بجلوس طالبٍ زعفراني مُغْبَر إلى جانب طالبة كركوكية لامعة، أحبَّها كما هو مقرَّرٌ بكلِّ البدايات السينمائية الشائعة. صدَّته بالطبع، ورفضتهُ في المحاولات الأخرى التي جرَّبها عاشق من زمن رسائل كان مسراها تحت الماء.

العاشق اسمه "حسن" وسيُعرفُ بـ"المرواني" لشهرة محدودة، وهو طالبٌ بقسم اللغات، فقيرٌ كالذين يقعون في الطرف المائل للحبِّ، والمعشوقة اسمها "سندس"، طالبة قالوا إنَّها "نجمة على الأرض تمشي فتتعثر وراءها كواكب". وهي مبالغة شعرية، فالحكاية انتهت مبكراً، في سطر منحها اسماً اقتضته الضرورة الفنية، والعصا العشائرية: "إذاً ستمسي بلا ليلى حكاياتي".

بكتْ "سندس" في القاعة التي كانت مُعدَّة لشِعر طويل وسَرْد مختصر، والطلبة المُغبرُّون يصفقون أو يطلقون آهات عميقة، وراء كلِّ بيت من القصيدة التائية التي كتبَها "حسن المرواني" بعد "عامين غائمين". دوَّنَ الطلبة الأبيات وراء العاشق الذي صار شاعراً زاهداً بـ"قصيدة يتيمة"، بكسور واضحة، ونسخ بمترادفات متعددة اعتماداً على حاسة غادِرَةٍ. تزوَّجتْ "سندس" وربَّما ندمت كما سيرد في أبيات الخاتمة الدرامية، وذهَبَ "حسن" في نهاية خالية من السينمائية، للعمل معلّماً في الصحراء الليبية، حتى بدا أنه لم يبق من القصيدة إلا ضميره المُتكلِّم، واسمها المستعار، ونصيحته المتعالية: "أنا وليلى واشطبوا أسماءَكُمْ"!

كادت الحكاية أنْ تُنْسى كملاحظة يومية في كتاب سقط في النهر، وتظلّ القصيدة حبراً ناشفاً على صحيفة محدودة الانتشار، حتى حين قرأها ملحِّنٌ أبدى رغبة بتحويلها إلى أغنية، فقد تلكَّأ في غناء شعرٍ ليس موقعاً بما يشير صراحة للضمير المتكلم. عشرة أعوام والقصيدة ورقة صفراء في حقيبة الملحِّن السامرائيِّ، ولما يصعد كالنَّار إلى كتف العَلَم، يعود إليْها، يخرجها من "دفتر عتيق"، يلحّن أجزاء منها، ولا يستقرُّ المغني القلق على الصوت الأخير لها. يضع إعلاناً في الصحف، ويرسل حاشيته إلى أطراف بغداد للبحث عن الشاعر، ويأتي إليه مغبراً في الاستديو، ليوقع تنازلاً عن القصيدة، ويؤدِّي "كاظم الساهر" ضمير المتكلم!

شاعرُ قصيدةٍ واحدة، كلُّ ما فعله أنْ نظم خمسة وثلاثين بيتاً من الكلام المحموم المُبلّل بالدمع، كأنَّه كان يرمي المحاولة الأخيرة التي قد تُسيِّرُ قافلة العرس إلى كركوك، ليرفع عليها "راياته". "بل كانت حماقاته"، تلك التي انتحلها أربعة شعراء بعدما صارت مصوَّرة نهاية التسعينيات، وأغنية تسمعها مرغماً كلَّما حرَّكْتَ مؤشر الإذاعة إلى اليمين أو اليسار. و"ليلى" صارت "موجة" حتى إنَّ فتى مغبراً في مخيَّم منسيٍّ تقدَّم لجائزة على مستوى "اللواء" لا تزيد قيمتها "النفيسة" على عشرين ديناراً، بالأبيات التي أسقَطها "السامرائي" من الغناء، ووجدها مُصوَّرَة في مكتبة تبيع أجوبة "التوجيهي". خرج الساهر أخيراً إلى الصحف لينصف "المرواني"، فوصفه كما يوصف الجالسون على أبواب الله بلا وزن أو قافية، بـ"الشاعر المسكين"!

لا أحد يعرف ما الذي جرى لـ"سندس". النهايات السينمائية المحدودة الخيال تفيد أنَّها جدة عصبية في الخمسين، وأرملة مُستَجِدة، غادرت كركوك أيَّام الشدة والحصار، وعادت عندما صدَّقت أنَّ الديمقراطية كالهدايا المتشابهة بالأعياد يمكن استيرادها في صناديق الخشب الأميركي عبر "شطِّ العرب"، و"حسن" معلمٌ متقاعد عاد من ليبيا بعدما غزا "الربيع" الصحراءَ، وتبادلت الفصول الأسماء والعلامات الفارقة في كتب الجغرافيا، سكن حياً منزوياً في بغداد، ويتوخى الحذر في مشيه الثقيل بين أحيائها دون هويَّته التي قد تنجيه أو تكون سبب موته مقتولاً، كما لا يشتهي عاشق نجا من ذبحات القلب. أما "أنا وليلى" فالضمير مجهولٌ فيها بعدما غادرت المسارح، وملَّ "السامرائيُّ" من غنائها!