الخميس 18 مايو 2017 / 16:21

دور الإعلام في عملية إحياء الشعر

قد يبدو كلامي هذا غريباً ومفاجئاً للبعض، إلا أن العلاقة بين الشعر والإعلام، لاسيما حين نتحدث عن الشعر العربي، ليست بالعلاقة الجديدة أو الطارئة. ولعلنا نتوقف هنا عند ظاهرة سوق عكاظ والمعلقات الشعرية في مرحلة ما قبل الإسلام. لقد كان الشعر في ذلك الوقت هو صانع الخطاب العام والمعبّر عن ضمير الجماعة وأحوالها وثقافتها وتاريخها، وفي كثير من الأحيان كنا نرى الشاعر يتنكّب دور حكيم القبيلة، وقد احتاج ذلك الشاعر إلى منبر يوصل من خلاله شعره، ويكون نقطة الانطلاق إلى أماكن وفضاءات أوسع، بل إنه يبدأ في اتخاذ حيزه في الذاكرة الجمعية من خلال تلك المنابر.

فالمنبر الشعري كان منذ القدم وعبر مختلف المراحل جزءاً من العملية الشعرية، ونلحظ أنه كان هناك دوماً منبران للشعر في الحياة العربية العامة: منبر شعبي يتخذ مكانه في الأسواق على وجه الخصوص، ومنبر نخبوي يتجلى في مجالس الأشراف أو في بلاطات الملوك. وفي الحالين برز شعراء اشتهروا بقدرتهم على الإلقاء والتأثير في الجمهور وبات لهم حفظة لشعرهم يرافقونهم في المحافل والمناسبات أو يجوبون الآفاق ويوصلون تلك الأشعار إلى الأماكن البعيدة. وتحفل كتب التراث العربي بالأمثلة والمشاهد عن شعراء يقفون ويلقون الشعر بأوصاف تأخذ في الحسبان شكل الشاعر وملابسه وطريقة وقوفه وقدرته الإلقائية على لمس شغاف القلوب والتأثير في الحاضرين، بما يعني أن فن إلقاء الشعر هو تاريخياً جزء تكويني من الشعر العربي.

ولعلّ من المفيد التوقف هنا عند الغناء بوصفه منبراً إضافياً أو وسيطاً أساسياً من منابر ووسائط إيصال
الشعر في التراث العربي. وليس غريباً أن يحمل أحد أمهات الكتب التراثية العربية عنوان "الأغاني"، وهو تحفة أبي الفرج الأصفهاني المعروفة، حيث توصف الأغنية بكلمة "صوت"، وهو الاسم الذي ظلّ مستخدماً حتى مطلع القرن العشرين، في عملية تماه بين القصيدة وإلقائها، فصوت القصيدة في كثير من الأحيان هو القصيدة نفسها، وفي كثير من الأحيان وجدنا أنه يكون أكثر حضوراً من القصيدة نفسها.

وما يستوقفني شخصياً في هذه المسألة هو تلك العلاقة المبكرة بين المرسل (الشاعر) المتلقي، وكم من مؤلفات وضعت لشرح هذه العلاقة وخصائصها وفنونها وأدواتها، بما يعكس ثقلها الجلي في الوعي العربي العام عبر العصور.



في العصر الحديث بدأ الشعر العربي يفقد تدريجياً هذه الخاصية المهمة، أي الأداء، بل وجدنا أن كلمة "منبر" في حدّ ذاتها تحولت سبباً للانتقاص من الشعر أو من شعراء معينين، وهذه مسؤولية مشتركة بين الشعراء وجمهور الشعر على السواء. فمن جانب الشعراء وجدنا القصيدة تنحو أكثر فأكثر نحو الإنشائية والصراخ والبرانية والموسيقى اللفظية والإيقاعات الحماسية، وفقدت الكثير من العمق الذي كان يميزها في السابق، فبات شعر المنبر يوازي لدى الكثيرين انعدام اللمعة الشعرية والموهبة واستغلال الشعر في خطابات سياسية أو أخلاقية لا تمتّ للإبداع الشعري بصلة. أما من جهة جمهور الشعر فوجدنا أنه بات أيضاً غير متطلب وغير نقدي كما كان في مراحل سابقة، فبات الاستسهال سمة والتكرار عنصراً متكرراً.

لقد شهد القرن العشرين العديد من الشعراء الكبار ينزعون إلى الجمع بين اللمعة الشعرية والخطابية، نذكر منهم الجواهري والرصافي وسعيد عقل ونزار قباني ومحمود درويش وغيرهم، ممن اشتهروا بفنهم في إلقاء
الشعر وشكل أداؤهم أمام الجمهور حضوراً موازياً لنصهم الشعري المتداول عبر الدواوين الشعرية أو المجلات والصحف. لكننا في الوقت نفسه شهدنا، وللأسباب آنفة الذكر، نوعاً من الانصراف عن فن إلقاء الشعر، أي عن حضور جسد القصيدة في صوت الشاعر، أو جسد الشاعر في صوت القصيدة، وقد ارتكبت الحداثة الشعرية العربية خطأ فادحاً حين صورت وجود تناقض بين الشعر أو القصيدة وإلقائها، وبتنا نجد شعراء يتفاخرون بأنهم لا يكتبون لأحد ولا يريدون لقصيدتهم أن تصل لأحد. ومع التفهم التام لهذا الاتجاه الحداثي، فإنه يبقى مرتبطاً بشعراء بعينهم يعيشون العزلة بوصفها فضائهم الإبداعي الطبيعي، وهذا رأيناه أيضاً في الغرب، لكن المشكلة الحقيقية حين يتحول إلى اتجاه عام ويصبح جزءاً أو حتى شرطاً من الخطاب الشعري.

وقد رأينا في الغرب عموماً أن العلاقة بين الشاعر والجمهور استمرت مع التيارات الحداثية، ورأيناها
تظهر على المسرح أو في الفنون الأدائية أو في مقاطع الفيديو، إلخ، وكلها تهدف إلى تحقيق الغرض نفسه وهو إقامة علاقة مع المتلقي، بحيث يكون التفاعل معه جزءاً من حياة القصيدة وتطورها، وحتى الشعراء الشباب اليوم يجتهدون في إيجاد صيغ تطويرية لإيصال القصيدة إلى الناس، خصوصاً وأن الانكفاء عن عملية إيصال الشعر، أدى في النهاية إلى عزلة الشعر نفسه، وفقدانه أهميته وتأثيره وحضوره، فبدأنا نرى مجدداً أشكال الإلقاء تعود بقوة، خصوصاً بين الشباب، حيث رأوا أن الشعر لا يستطيع الاستمرار في الانكفاء وتجنب اختبار الاحتكاك المباشر بالجمهور.

في هذا السياق برز على سبيل المثال برنامجا أمير الشعراء وشاعر المليون في أبوظبي عاصمة دولة الإمارات
العربية المتحدة، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن بروز هذين البرنامجين التلفزيونيين جاء بالتوازي مع إطلاق دولة الإمارات عموماً وأبوظبي خصوصاً العديد من البادرات الثقافية والفنية، إدراكاً من قيادة الدولة، وعلى وجه الخصوص صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، إلى أهمية مثل هذه البادرات في النهوض الحضاري والتنموي، وفي مواجهة التيارات المتشددة والمتطرفة التي تتمسّح بمسوح الدين، ولمنح الشباب بيئة خصبة للتعبير عن أنفسهم وتطوير قدراتهم ومهاراتهم، وهو ما توّج قبل فترة قصيرة بتأسيس مجلس القوة الناعمة الإماراتية الذي يهدف إلى الاستثمار في الإنسان والمعرفة وسيلة للتطوير والنهوض نحو المستقبل.

وبصفتي عضواً في لجنة تحكيم برنامج أمير الشعراء منذ تأسيسه قبل نحو ثماني سنوات، فقد شهدت ذلك الإقبال الكبير، سواء من هواة الشعر أنفسهم أو من الجمهور على متابعة البرنامج، إذ جاء ليملأ ثغرة كبيرة في الواقع الإعلامي العربي وليعيد الاعتبار إلى الشعر وفنون إلقائه أمام الجمهور، وعاماً بعد الآخر، يزداد حضور هذا الجمهور وتتسع رقعته، كما يطور البرنامج نفسه ليصل إلى شرائح أوسع، وليقدم محتوى إعلامياً وفنياً أفضل شكلاً ومضموناً. والأمر نفسه ينطبق على شاعر المليون للشعر النبطي، أو المحكي الخليجي، وفي الحالين فإن تجربة حضور الشعر في الإعلام الجماهيري على وجه الخصوص، أي التلفزيون، قد أثبتت نجاعتها، بل ضرورتها، وهو ما يعني أن كل الدعاوى السابقة حول عزل الشعر لا يمكن ولا يجب تعميمها.

ربما تختلف الرؤى والمقاربات حول حضور الثقافة عموماً والشعر خصوصاً في وسائل الإعلام الجماهيرية، لكنّ هذا الاختلاف لا يجب أن يمنع أو يحجب ضرورة هذا الحضور، أما الكلام الذرائعي الدائم عن أن الجمهور غير مهتم بالثقافة، فهو كلام غير صحيح، وهو مسؤولية الوسائط الإعلامية في المقام الأول المطالبة بأن ترفع جرعة الابتكار والتجديد وتقديم الأفكار الجديدة التي تدفع الجمهور، لاسيما جمهور الشباب إلى التفاعل معها، وهو دور الحكومات والمؤسسات أن تسعى إلى إلغاء مثل هذه الحواجز، وعدم التذرع بذرائع واهية من قبيل السوق، وعدم تحقيق البرامج الثقافية للربحية المطلوبة، ذلك أنه ولو سلمنا جدلاً بصحة ذلك، وهو أمر غير صحيح بالمطلق، فإن الربح الأعظم يتحقق على المدى المتوسط والبعيد، ويتجسد في تطور الذائقة والارتقاء بالوعي الثقافي والإنساني، وتعزيز قيم الحوار والتسامح، وخلق فضاءات للتعبير الشبابي، وهو ما يحمي أيّ أمة من الأمم من التحجر والسقوط في فخّ الخطابات المتشنجة والمتطرفة والعنيفة.

*نص كلمة د. علي بن تميم في ندوة "دور الإعلام في عملية إحياء الشعر"، التي نظمتها جمعية الصحافة الأوروبية للعالم العربي اليوم الخميس بباريس.