الكاتب المصري يوسف زيدان.(أرشيف)
الكاتب المصري يوسف زيدان.(أرشيف)
الخميس 10 أغسطس 2017 / 00:12

العرب بين مطرقة الإسلاميين وسندان تطرف المثقفين

هذا الخطاب لا يليق بمثقف مستنير مثله. هؤلاء كانوا رموزاً في مرحلة مهمة في تاريخ العربي، ولا يمكن أن يكونوا مرحليين

نحن اليوم نقف أمام إرهاب مضاد يضاف إلى قائمة الإرهاب التي تواجهها المنطقة بقوة وثبات من إرهاب داعش الفوضوي إلى إرهاب الخارجين على سيادة دولهم مروراً بالإرهاب الممعن بالطائفية الذي ترعاه طهران، وصولاً إلى الإرهاب الثقافي المطالب بإلغاء مكونات التراث الأساسية، والتقليل من شأن رموز تاريخيّة، واتهام منظومة الأزهر، والمطالبة بتنحية دوره، ورجم علمائه بأقذع الألفاظ، وكلّ هذا من أجل استغلال مخاوف الناس من الإرهاب، ما يدلّ على المنحى التصاعدي للتوتر القائم.

إنّ غياب التوازن في بعض النخب المثقفة يشكل تهديداً جديداً، خاصة تلك المسلحة بوعي تاريخي مثقل، لأنّ لديهم إمكانيات التلاعب باللغة، واتخادها وسيلة للتضليل بدل أن تكون للإبانة، لتصنع مشهداً ثقافيّاُ كسيحاً ومشوّهاً، وبعض المثقفين المسكونين بهاجس التغيّير بالصدمة، على مستوى الوعي والممارسة، مثل الكاتب والروائي المصري يوسف زيدان الذي يقول "إن المسجد الموجود في مدينة القدس المحتلة ليس المسجد الأقصى ذا القدسية الدينية الذي ورد في القرآن الكريم والذي أسرى إليه الرسول محمّد، وأن المسجد الأقصى الحقيقي الذي ذكر في القرآن يقع على طريق الطائف، بينما المسجد الكائن في فلسطين لم يكن موجوداً من الأساس في عهد الرسول محمد، وأن من بناه هو الملك بن مروان، مما فجر جدلاً واسعاً في الأوساط المصرية والإسلامية. وفي هذا السياق صرح بأن القدس كلمة عبرانية، وأنه لا وجود للمسجد الأقصى في مكانه القائم الآن، مشككاً في معجزة الإسراء والمعراج، وصلاة النبي محمد في المسجد الأقصى.

هذه آراء غارقة في التطرف، لا تختلف كثيراً عن تطرف فكر وفتاوى داعش والجماعات الإرهابية، وهذا التجديد في الخطاب الديني لسنا بحاجة إليهُ، فالدين والثقافة عندما ينتزع منهما ثوب الأخلاق والإنصاف، ترفضهما ثقافة الأمة لاصطدامها مع منظومة العقيدة.

راهناً، هناك ضجة في التواصل الاجتماعي -أيضاً-من ذات المثقف -زيدان -حينما حاول الطعن في الرموز التاريخية، ونعتها بأقبح الصفات، حينما وصف الفاتح الأيوبي صلاح الدين بأنه "أحقر رجل في التاريخ الإنساني" وما أعقب هذا التاريخ من واقع دموي-على حد زعمه- فإن استئصال التشيع من مصر كان ضرورة متسقة مع عهده وتبدو منطقية بمعيارالزمن، والتشكيك في الثوابت التاريخية يؤجج الكراهية والشقاق، فضلاَ عن أن رموز المراحل التاريخية لا تفضل أحداً على أحد، بل يكمل بعضها بعضاً، كما هي سنة التغيرفي الحياة.

كما أنّ هذا الخطاب لا يليق بمثقف مستنير مثله. هؤلاء كانوا رموزاً في مرحلة مهمة في تاريخ العربي، ولا يمكن أن يكونوا مرحليين بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، فضلاَ عن تلك الطرائق النقدية التي جعلت من النقد عمليّة رياضيّة جامدة، أو إحصائيّة باهتة، وأحياناً لا تكون اللّغة ليست أداة للتواصل، ولكن لتشكيل الفكر، كما تعدّ اللغة مرتعاً خصباَ للخروج عن الموضوعية، واختلالًا في المعايير، من خلال تحريف الدلالة، وتجاهل ظروف التاريخ، وإحياء عداوات وحزازات يعود بعضها إلى قرون ، وهي فرقعات إعلامية، يراد منها تزييف الوعي الجمعي. وعملية النقد غالباً ما تتطلب قيمة أخلاقية عليا في إبراز الحقيقة، وأمانة معرفية لإظهار الحق. ويبدو أن هؤلاء يبحثون عن خلود فردي ولا يبحثون عن خلاص جماعي لمجتمعاتهم، مع تقديرنا لجهودهم في خدمة التراث التي تحسب لتاريخهم الثقافي، بيد أن هذا لا يسوّغ لهم الاعتداء على قيم وثوابت الأمّة لكي نقاوم المنحنيات الأصولية للفكر الضال، وكأنهم لا ينصتون لناقوس خطر الانقسام وشق الصف الذي يدق بقوة.

المورث الثقافي أو الفقهي لا يحتاج إلى إظهار سيئاته أو مثالبه، بل نحن في مرحلة من التشرذم وقلوبنا شتى، ونحتاج إلى إبراز الأفكار المستنيرة التي تسبق عصرها وتتلاءم مع الواقع من ثقافتنا وتصفية الراكد المضيء، والأخذ بما يتناسب مع زمننا دون إخلال بالثوابت أو القذف وإلصاق الاتهامات المسيئة برموز الأمة وأرباب الفكر وأهل التاريخ، أو كأنّ رموز تاريخ الحضارات الأخرى للأمم المتحضرة تخلو مكامن تراثها من جوانب مظلمة، بيد أن النقد البناء يكون توقيته عندما يعم الاستقرار ويسود الأمن، لا أن نضغط على الوعي العربي ونهزّ ثوابته، ونضلّل مفاهيمه، من خلال تشتيت الذهن بسياق ثقافي متطرف تجعله يشكك في الموروث وهو غير مقبول بل عارٍ عن الصحة، من أستاذ نظنّ أنّ لديه رجاحة العقل والنضوج المعرفي والفكري، لاسيما في خضم أزمات صعقت الشعوب العربية بما يكفي وجعلتها منهكة ومنهمكة من أجل البقاء، لاهثة من أجل البحث عن الحرية والكرامة العيش الأمن.

فمن الاستحالة محاصرة الإرهاب بتطرف مقابل. في السياق ذاته، هناك ثلة من المثقفين - غير نزيهة- تتهم كتب التّراث جملة وتفصيلًا بأنها مصدر للإرهاب، وكما يتم عرِض سلسلة الحوارات التي أجراها الشابُّ الصحفيُّ المِصرِيُّ "إسلام بحيري" من الإساءة إلى الأزهر إلى نقدٍ مجحف لكتاب صَحيح الإمام البُخاريِّ - رحمه الله - وادعائه بأنه يحمل (العفن الفكري) بزعم أنّ المحدِّثين والفُقهاء وأهل السِّيرة والتاريخ قد تَداوَلوه مُنذ ذلك العهد دون أن يَنتبِهوا لِما فيه مِن خطأ، كما يقال "تمت صياغة الأحكام بنفسية المغلوب في موقف دفاعي"، فهي اشكالية مزدوجة تتعلق بقلب الوسائل و الأهداف فضلًا عن عكس ترتيب ما هو أساسي وما هو ثانوي. فالحوار الراقي الذي يخلو من البذاءة في التعاطي هو مؤشر حقيقي من مؤشرات التحضر، هذا الجهاد الذي يهدف إلى تحقيق قيم الإنسانية والكرامة والوعي، في مرحلة نحتاج فيها إلى لملمة جراحنا حتى تبرأ، لا أن نعمق هذه الجراح وننكأ ما فيها.