الشاعر الفلسطيني محمود درويش.(أرشيف)
الشاعر الفلسطيني محمود درويش.(أرشيف)
الأحد 20 أغسطس 2017 / 19:59

الطريق إلى أريحا..!!

تحوّلت غرفة محمود درويش هناك، في السكاكيني، إلى ما يشبه غرفة عمليات صغيرة، يُسمع فيها رنين هواتف كثيرة. ولم يكن كل ما سمعناه يدعو للطمأنينة

لا يختلف اثنان من قرّاء محمود درويش حول حقيقة ما تجلى في مُنجزه الشعري والنثري، على مدار نصف قرن، من رغبة دائمة في التجاوز، والإفلات من صور نمطية للشعر والشاعر (شعر المقاومة وشاعرها)، خاصة وقد اقترن كلاهما بقضية من وزن فلسطين بحمولتها الرمزية، وحضورها السياسي والبلاغي في مرحلة صعود الحركة الفدائية الفلسطينية، بعد هزيمة حزيران، و"عودة الفلسطينيين إلى التاريخ".

ولكن ما لم يسترع الانتباه أن الشجاعة الإبداعية كانت وثيقة الصلة بالشجاعة الشخصية في الحياة اليومية، أيضاً. وهناك، في الواقع، ما لا يحصى من الدلائل سواء في القصائد، والمقابلات، التي أشار فيها محمود درويش مباشرة أو مداورة إلى "مجازفات شعرية" حكمت انتقاله من مرحلة إلى أخرى. ومع ذلك، نادراً ما تطرّق إلى تفاصيل الحياة اليومية، وما فيها من إكراهات تُحرّض على خيارات قد تكون باهظة التكاليف بالمعنى الشخصي.

وبقدر ما أرى الأمر، فإن أحد المفاتيح المُحتملة لشخصية محمود درويش يمكن العثور عليه في حقيقة أنه كان "ابن بلد" بالمعنى الشائع والمتداول في ثقافات ومجتمعات عربية كثيرة، وهذه معطوفة على المعاني السائدة للالتزام الوطني، والوظيفة الاجتماعية للمثقف، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، هي البطانة الداخلية العميقة لخيارات شخصية ويومية كثيرة.

وفي سياق كهذا أود التوقف أمام مشهد يوم بعيد، في أوائل العام 2002، كانت الانتفاضة الثانية في ذروتها، آنذاك، وكان من المُنتظر وصول كتّاب عرب إلى رام الله استجابة لدعوات سابقة، والمشاركة في فعاليات مختلفة.

كانت مداخل رام الله، في تلك الأيام، خطوط تماس مباشرة بين المتظاهرين وقوّات الاحتلال، وفي أرجاء المدينة تدوي أصوات الرصاص، ولا تكف سيّارات الإسعاف عن الزعيق، وفي الأحياء القريبة من خطوط التماس تعشش سحابات من دخان الإطارات المشتعلة، وقنابل الغاز فوق رؤوس الناس. يومها أصر محمود درويش على الذهاب إلى أريحا ليكون في استقبال القادمين من الأردن عن طريق جسر الملك حسين (اللنبي).

وفي تلك الأيام، أيضاً، كانت الطريق بين رام الله وأريحا محفوفة بالمخاطر، فهذا يستدعي المرور قرب مستوطنات على طرق يُغلقها المستوطنون، ويقذفون السيّارات العابرة بالحجارة، إضافة إلى الحواجز الثابتة، وحواجز غير متوقعة تبنت كالفطر من حين إلى آخر، والرحلة التي تستغرق، عادة، أقل من أربعين دقيقة بالسيّارة، قد تستغرق ساعات حسب مزاج جنود الاحتلال على الحواجز، والحالة الأمنية، التي يصعب التنبؤ بها من ساعة إلى أخرى. وحتى إذا وضعنا هذا كله جانباً، فإن الطريق الجبلية الضيّقة، التي تعبرها سيّارات في الاتجاهين، ولا تصلح في الواقع لأكثر من اتجاه واحد، كانت كابوساً صغيراً حتى في الأيام "العادية".

لذا، من الأمور الروتينية، تماماً، إجراء اتصالات دائمة لمعرفة أحوال الطريق. وفي ذلك الصباح البعيد لم تكن الأخبار مشجعة، فهناك سيّارات تعرّضت لحجارة المستوطنين، الذين أغلقوا بعض الطرق الجانبية، وعلى مداخل رام الله، التي ينبغي عبورها، إطارات مشتعلة، وقنابل غاز، وإصابات بالرصاص الحي، إضافة إلى خبر عن تأخير الإسرائيليين على الطرف الآخر للجسر وصول المدعوين، ورفض السماح لأحدهم بالدخول.

تحوّلت غرفة محمود درويش هناك، في السكاكيني، إلى ما يشبه غرفة عمليات صغيرة، يُسمع فيها رنين هواتف كثيرة. ولم يكن كل ما سمعناه يدعو للطمأنينة. ومع ذلك، لم تفتر حماسته، بل قرر الذهاب و"ليكن ما يكون". وقد فعل ذلك بلا مبالغة، وبلا ضجيج، كل ما في الأمر: "هؤلاء ضيوف، ويجب أن أكون هناك"، يقول، ويُعدّل من وقت إلى آخر وضع نظارته على عينيه.

ولكن الأمر حُسم بمكالمة من مكتب الارتباط الفلسطيني، الذي اتصل شخص منه ليقول إن الإسرائيليين أغلقوا الطريق إلى أريحا قبل دقائق قليلة. وأعترفُ بأنني تنفست الصعداء.