شبان يحملون صليباً خشبياً أمام مسجد محمد الأمين وسط بيروت. (أرشيف)
شبان يحملون صليباً خشبياً أمام مسجد محمد الأمين وسط بيروت. (أرشيف)
الإثنين 21 أغسطس 2017 / 20:06

الخطر اللبناني

أفسح هذا الطريق للمدرسة اللبنانيّة بمسيحيّيها ومسلميها، وبما هي مدرسة خارجة على التقاليد الأدبيّة وغير الأدبيّة، حرّة وجريئة، فهل تستمرّ هذه المدرسة بعد أن تضاءل عدد المسيحيّين إلى حدّ خياليّ؟

ليس لبنان وحده بلد الأقلّيات في العالم العربيّ، فالعالم العربيّ الذي ورث امبراطوريّات ورث عنها فسيفساء دينيّة وعنصريّة، بعض منها نادر وأثري، حتّى ليمكن القول أنّ العالم العربيّ من حدائق الأقلّيات في العالم، فثمّة أقليّات فيه هي فريدة في نوعها ولا نظير لها في مكان آخر في العالم.

ورغم هذا التاريخ الذي يوحي بتعايش طويل بين الجماعات الدينيّة، ورغم ذلك المدى الطويل الذي تشاركت فيه هذه الأقلّيات الأرض والمعيش، فإنّنا لا نلحظ أنّ هذه الجماعات قد ربّت فيما بينها ثقافة تعايش وتشارك، لا نعرف في تاريخنا صدامات كثيرة بين الجماعات الطائفيّة، وربما ساد خلال بعض العصور صمت طائفيّ أو ما يشبه الصمت، إلاّ أنّ الغالب على ذلك كلّه كان هيمنة الأكثريّة التي لا شكّ في غلبتها وإدارتها بوسائل متفاوتة ومتضاربة للعلاقات بين الطوائف. إلاّ أنّ قبول الإسلام للديانات ذات الكتاب امتدّ على بقيّة المجموعات الدينيّة، كما أنّ عقليّة الأمبراطوريّات التقليديّة سمحت بقدر من التعايش الذي لم يكن هو نفسه طوال الأوقات، والذي كانت تعترضه هوجات طائفيّة مفاجئة، فالتعايش لم يكن ميثاقاً مكرّساً ولم يكن اختراقه مستحيلاً.

ربّما نحن الآن في خضّم هذه الهوجات التي تبدو ردّاً على انكسار الهويّة الذي مسّ بالدرجة الأولى الدين وخاصّةً بعد أن فشلت الهويّات الأخرى القوميّة والإستقلاليّة في أن تصمد أمام التحدّيات الأجنبيّة والمحليّة وبعد أن اتخّذت هذه التحديّات طابعاً دينياً، بل مذهبيّاً في الأغلب. كان لبنان الأنموذج الأوّل لهذه الهوجات الّتي تكرّرت فيه، وأحياناً بمعدّل مرّة كلّ عقد من السنين وبأساس طائفيّ.

كانت الحرب الأهليّة اللبنانيّة الأولى التي اندلعت من النمط ذاته في المنطقة، ومن المؤكّد أنّ الأنموذج اللبنانيّ لم يقم من دون تدخّلات إقليميّة و عالميّة، لكنّ الأكيد أيضاً أنّ هذه المداخلات بنيت على عناصر محليّة وصراعات داخليّة ما كان لها أن تفعل من دونها، ولا نستطيع أن نصم هذه الصراعات بالتخلّف.

 لبنان الذي بدأت فيه الحرب الطائفيّة لا يتّهم بالتخّلف، بأيّ مقياس كان. فهذا البلد هو حلقة وسطى بين الشرق والغرب، وإذا اعتبرنا الغرب مقياس التقدّم كان لبنان هو الأكثر تغرّباً. لايعود ذلك فقط إلى تعدّده اللغويّ ومناخه الديموقراطيّ وتاريخه الكولونياليّ، بل يعود بالدرجة نفسها إلى تاريخه الأقلّويّ الذي جعله متعدّد الأديان، وجعل للمسيحيّة فيه أثراً ثقافياً وسياسياً سهّل الإتصّال بالغرب وخفّف من المقاومة الإسلاميّة لهذا التأثير. وكما لبنان الثقافيّ مدين للمسيحيّة بقدر، بل أكثر ممّا هو مدين للإسلام من دون أن يعزله ذلك عن الأفق العربيّ، نجد في لبنان فرانكوفونيّين مرموقين مثل جورج شحادة وصلاح ستيتيّة وفؤاد غبريال نفّاع، لكننا نجد أيضا كبار المجدّدين في العربيّة ونلاحظ أنّهم على وجه الإجمال مسيحيون. ولعلّ كونهم كذلك أبعدهم عن التقاليد الأدبيّة المتعلّقة بالتراث القرآني. بوسعنا أن نردّ إلى ذلك كبار المبدعين المهجرييّن: جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليّا ابوماضي ونسيب عريضة. بيد أنّنا لا نغلط إذا لاحظنا لدى هؤلاء نفَساً إنجيليّاً، لا نغلط إذا لاحظنا أنّ لمسيحيّة هؤلاء سبباً في توجهّهم الأدبي والفكري، وأنّ ميراثهم العربيّ لم يكن بالإحتياط الذي كان لزملائهم المسلمين. بل إنّ ثورة جبران والريحانيّ وحتّى نعيمة على الكنيسة وأركانها، وهي عاتية عارمة تصل إلى حدّ اتّهام الآباء ورؤساء الدين بالخروج عن المسيح ونبذه. هذه الثورة لا نجد مثيلاً لها عند الكتّاب المسلمين. نتذكّر بالتأكيد نقد طه حسين للأزهر، ولكن أينه في حدّته وفي تطرّفه من صراع جبران والريحانيّ مع الكنيسة وهما استلهما، من غير شك، تقاليد راسخة في الثقافة الغربيّة وتجرّأ أصحابها عليها بسبب هذا الإرث الغربيّ.

لقد أفسح هذا الطريق للمدرسة اللبنانيّة بمسيحيّيها ومسلميها، وبما هي مدرسة خارجة على التقاليد الأدبيّة وغير الأدبيّة، حرّة وجريئة، فهل تستمرّ هذه المدرسة بعد أن تضاءل عدد المسيحيّين إلى حدّ خياليّ؟ أم أنّ الحريّة صارت، بصرف النظر عن الهويّة الدينيّة والمذهبيّة، تقليداً لبنانياً؟