رسم تعبيري.(أرشيف)
رسم تعبيري.(أرشيف)
الثلاثاء 22 أغسطس 2017 / 19:58

دموعُ العذراءُ الجميلة … تخلق الحياةَ في الوادي الخصيب

مستحيلٌ أن تنتهي الحياةُ بموت الإنسان في الأرض. لابد من حساب وثواب وعقاب. فإما خلودٌ أبديٌّ للصالحين، أو فناءٌ للخُطاة الطالحين

جلستِ العذراءُ الجميلةُ على ضفاف النهر تبكي حبيبَها النبيلَ الذي مزّق الشيطانُ أوصالَه، ثم نثر أشلاءَ المغدور في كل بقاع أرض طِيبة، حتى يسودَ الشرُّ ويفنى الخيرُ والحق والجمال. دموعُها الغزيرةُ على حبيبها ملأت جسدَ النهر الظامئَ، ففاض الماءُ على جانبي الوادي، وروى اليابسةَ القاحلةَ؛ فاخضوضرتِ الأرضُ الجدبُ وكستِ المروجَ بالزهور والثمار والشجر. نظرتِ الفتاةُ حولَها فعرفتْ أن السماء (نوت) ترسل رسالةً مهمّة إلى الأرض (جب). تقول الرسالةُ إن البعثَ حقيقةٌ وإن الموتى يعودون إلى الحياة بأمر الله. نظرتِ العذراءُ الجميلةُ إلى السماء وهمست من خلال دموعِها والفجيعةُ تمزّق قلبَها: “يا نوت، أيتها السماءُ الطيبة، هل يُبعثُ حبيبي من مواتٍ؛ كما بعثتِ الحياةَ في موات الأرض؟" أشفقتِ السماءُ على دموع الفتاة، وحنّ قلبُها. فجمّعت أشلاءَ الفتى الوسيم المنثورة في اثنتين وأربعين بقعة من بقاع مصر، ثم أعادته إلى الحياة. بعد ذلك صعدت به إلى السماء وأجلسته على العرش ليغدو إله الحق، أوزوريس، المسؤولَ عن حساب البشر في العالم الآخر. حيث يقفُ الموتى بين يديه في المحكمة الأوزورية وأمامه ميزان الحساب العدال يراقب سهمَه "تحوتي" إله المعرفة، ليسجّل كل حسنات الميت وخطاياه. أما الفتاةُ الحزينة "إيزيس"، فقد طوّبتها السماءُ وأعلنتها: ربّة الفضيلة والنقاء. ثم نفخت السماءُ في قلب الفتاة بروح مقدسة، فحملت من دون زواج وأنجبت طفلا جميلا أطلقوا عليه اسم: "حور سي إيزا"، أي "الطفل ابن إيزا"، نسبةً إلى أمّه إيزيس، وصار إله الشمس: “حورس"، ابن "إيزيس" و"أزوريس". وأُلقي على عاتق الصبيّ الوليد حورس أن يحارب الشرّ في الأرض، ويملأ جنبات الكون بالسلام والحبّ والخير.

تلك هي الأسطورةُ المصرية القديمة التي آمن بها أجدادُنا المصريون وربطوا بينها وبين فيضان النيل المبارك، مرة كلّ عام في مثل هذه الأيام من شهر أغسطس. وأعلن المصريون يومَ فيضان النيل عيدًا قوميًّا مجيدًا، أطلقوا عليه: "وفاء النيل".

ومن وقتها، صار النهرُ العظيم، حابي، نهر النيل الخالد، يفيض ماؤه مرةً كل عام في أغسطس، في ذات التوقيت الذي ذرفت فيه إيزيسُ الجميلة دمعَها على ضفافه حتى فاض بالماء المبارك، ليملأ وديانَ مصر بالخير والثمر. فإن فاض، أعلن الكهنةُ من قدماء المصريين، ومن بعدهم قساوسة المسيحيين وشيوخُ الإسلام (معًا) أن النيل قد برّ بوعده وفاض على أرض مصر، وأن الخير قادمٌ هذا العام. فتزغرد النساءُ ويهلّل الرجال ويفرح الأطفال وتمتلئ جوانبُ مصر بالأعياد والأفراح. فإن حدث وتأخر النيلُ عن وعده ولم يفض، تودّدوا إليه بأن تُزيّن عروسٌ حسناءُ خشبيةٌ بأفخر الثياب والحُليّ؛ ثم يزفّونها في موكب فاخر مهيب إلى عريسها "النيل" الأبيّ، ثم يلقونها فيه حتى يرقّ قلبُه ويفيض بالريّ والرَغَد. فإن فاض بالماء، أمطروه بالبركات والهدايا والنذور. ولهذا جرّم المصريون إيذاء النيل وتلويثه. وصار تدنيس مائه خطيئة كبرى تحرمُ مرتكبَها من الوصول إلى الأبدية. لهذا كان من بين الاعترافات الإنكارية التي يقرُّ بها المتوفى في لحظة الحساب أمام أوزويس، وماعت ربّة العدل والحق: “أنا لم ألوّث مياه النهر".

كان فيضانُ النيل ووفاؤه بوعده كل عام في رِيّ الأصفر ليغدو أخضرَ يانعًا، هو سرّ إيمان المصريين بالبعث والخلود. فكما تنشقُّ الأرضُ السوداءُ الميتةُ عن الزهر والثمر والحياة، لابد أن يعودَ الموتى إلى الحياة من رقادهم. فمستحيلٌ أن تنتهي الحياةُ بموت الإنسان في الأرض. لابد من حساب وثواب وعقاب. فإما خلودٌ أبديٌّ للصالحين، أو فناءٌ للخُطاة الطالحين. وهنا بدأ المصريّ القديم يُنشئ حضارته ويُشيّد عمارتَه الأسطورية فكانت الحضارةُ وكان الميلاد الأول لأول دولة في التاريخ؛ في مصر القديمة. لهذا السبب قال هيرودوت، المؤرخ الإغريقي: “مصرُ هبةُ النيل"، لأنه لولا النيل، ما كانت حضارةُ مصر العريقة التي سبقت الحضارات والمدنية في كل بقاع الأرض. والحقُّ أن مصرَ هبةُ النيل، والنيلُ هبةٌ من الله لهذه الأرض الطيبة، التي لن تكتب السماءُ لها الفناء رغم الويل والفتن. فكما أعادتِ السماءُ الحياةَ لجسد أوزوريس الذبيح، وكما أثمرتِ الحياةُ طفلا صالحًا في أحشاء العذراء إيزيس بروح مقدسة من لدن السماء، وكما فاض النيلُ فبعث الحياةَ في الأرض القاحلة ثمرًا ووردًا ونخيلاً وكرمًا، فلابد أن تنهض مصرُ من كبوتها ويُثمرُ الجدبُ ويخضوضر اليابسُ الأصفرُ. وكما طارد "حورس" النبيلُ قاتلَ أبيه الشيطانَ "سِت"؛ ودحره وأفناه، سيدحر المصريون شيطانَ الطائفية لتعود مصرُ نقيةً طاهرةً من دنس الإرهاب والويل. آمون، آمين.