المفكر الإنغليزي ديفيد هيوم.(أرشيف)
المفكر الإنغليزي ديفيد هيوم.(أرشيف)
الأربعاء 23 أغسطس 2017 / 19:44

حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا

تسبب بعض المُتمسحين بجلباب الدين بحصول نكسة فكرية في الوجدان الإسلامي باستمتاعهم بتقليد الناس لهم حتى صار لبعضهم جماعات وأحزاب ودول انعكس واقعها الفاشل والأليم على واقعنا السياسي والفكري والاجتماعي

تفشى مرض الطاعون في أحد المستعمرات البرتغالية مباشرة بعد وفاة أحد المُحتلين، فاتخذ الأهالي الاحتياطات الممكنة لكي لا يموت رجل أبيض آخر معتقدين أن سبب تفشي الطاعون هو وفاة البرتغالي الأبيض.

في جنوب أفريقيا توفي شيخ قبيلة "البوشمن" ومن بعده توفي ابنه مباشرة بعد إهداء أحد المستعمرين البيض عصا مُرصعة بالأزرار التي ترمز للسيادة والسلطة، فأعاد البوشمن العصا لصاحبها لربطهم بينها وبين الهلاك والموت.

عندما رأى شعب "الياكات" الجمل للمرة الأولى في حياتهم اعتقدوا أنه هو سبب انتشار الجدري لأنه ظهر أمامهم قبل تفشي المرض فجعلوا منه سبباً لظهور الجدري.

حصل إعصار تسونامي في نهاية عام 2004 فجعل البعض سببه ذنوب البشر بالرغم من كون سببه انزلاق طبقي تحت المحيط، وهم نفس الذين جعلوا من سبب إعصار كاترينا قبالة السواحل الأمريكية هو السياسة الأمريكية رغم كون سبب الإعصار هو حركة الرياح المضطربة.

هذه الأمثلة من حياة أجدادنا والمتكررة في حياتنا مردها وجود فجوة في المعرفة العلمية يرتزق منها كثيرٌ من العرافين والرُقاة والوعاظ والمعالجين الشعبيين والتي عادة ما تكون موروثة من شجرة جينية أو ثقافية ما، فإن بشروك بأحداث سعيدة أو حذروك من أخبار وخيمة أو وصفوا لك علاجاً لمرض مؤقت فحصل ما تنبؤا به استقر في مُخيلة من يستمع لهم أن ذلك علامة على صدقهم، مع تغاضي الناس عن تنبؤاتهم الخائبة التي لا تعد ولا تحصى والتي نستطيع تمثيلها بالحديث المنسوب للنبي ص (كذب المنجمون ولو صدقوا)، يسمي هذا العلم هذه الظاهرة باسم (مشكلة دُرج السِجلات) والتي تعني أن الباحثين يُلقون نتائج أبحاثهم في أدراج السجلات بسبب حصولها بالصدفة أو بسبب كونها نتيجة هزيلة، بينما يقوم آخرون بتسجيلها والتهليل لها رغم كونها حقيقة مغلوطة فتصبح ظاهرة لافتة وبراقة رغم عدم مساندة الأبحاث المطوية في الأدراج لها، وهكذا تتحول المُعطيات والنتائج المُهترئة إلى عقائد جامدة وقابلة للتوريث لعقود وقرون عند جماعة المُقلدين.

المُلفت أنّ لعلماء الحضارة الإسلامية موقفاً نظرياً مُناوئاً للتقليد استمدوه من آية (حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) الذي اتبعه الرد القرآني المُباشر (أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون)، وعّرف الغزالي التقليد بأنه قبول قول بلا حجة وأصر على عدم اعتباره طريقاً إلى العلم لا في الأصول ولا في الفروع، وألّف السيوطي كتاباً كاملاً يُغني عنوانه عن معرفة مضمونه سمّاه (الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض)، لكن من الناحية العملية، تسبب بعض المُتمسحين بجلباب الدين بحصول نكسة فكرية في الوجدان الإسلامي باستمتاعهم بتقليد الناس لهم حتى صار لبعضهم جماعات وأحزاب ودول انعكس واقعها الفاشل والأليم على واقعنا السياسي والفكري والاجتماعي.

ليست أحكام القِيم خاطئة ولا صحيحة بالقياس إلى الأحكام المستندة على وقائع، فأجزاء الوعي البشري تُقسم إلى أجزاء قائمة على علوم يمكن البرهنة عليها وإثباتها مثل العلوم الهندسية والرياضيات، وأجزاء أخرى لا يمكن البرهنة عليها بنفس طريقة النوع الأول، فكما قال "ديفيد هيوم" فإن لكل حدث نقيضه الممكن وغير المستحيل، وفي هذه الدائرة يجب إيقاظ الفضول وطرح الأسئلة وعدم الاكتفاء بتقليد السابقين بسبب كونهم سابقين وصالحين ومُخلصين.