الروائي الروسي فيدور دوستويفسكي.(أرشيف)
الروائي الروسي فيدور دوستويفسكي.(أرشيف)
الأربعاء 18 أكتوبر 2017 / 20:02

قلب دوستويفسكي النازف

كان دوستويفسكي مريضاً. وكان يتوقع في كل يوم، نوبة صرع، أو زيارة مجهولة، أو رسالة من دائنيه

كتبتْ سوسلوفا صديقة دوستويفسكي في مذكراتها، نوفمبر (تشرين الثاني) 1866: "اليوم رأيتُ فيدور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي، وتجادلنا كثيراً، وعارض كل منا الآخر. لقد ظل طويلاً يعرض عليَّ يده وقلبه، وهذا فقط يجعلني غاضبة، وهذه هي المرة الأخيرة التي أراه فيها".

عرض اليد والقلب نراه كثيراً في روايات دوستويفسكي، وهو عرض مخيف في النهاية، بسبب طريقة العرض، التي تحمل من العاطفة والانفعال والسذاجة، قدراً لا يحتمله أحد. لا يتأثر فيدور دوستويفسكي برفض العرض، ولعَظَمَة روحه، يعتقد أن العرض لم يكن صادقاً، لم يكن خاضعاً بالقدر الكافي أثناء عرضه، كان بارداً، منعدم العاطفة، وفي عرض اليد والقلب القادم، سيكون أكثر صدقاً. بعد أسابيع، غيَّر دوستويفسكي باترون الرواية العاكف عليها. وكتب في رسالة إلى أ. إي. فرانجل، في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 1866: "كتبتُ الكثير، لكنني أحرقته. شكل جديد، حبكة جديدة جاءتْ إليّ، وبدأتُ من جديد". الكتابة بشكل عام، تحب البداية من جديد، وربما الكتَّاب سرقوا هذا الحب، ونسبوه لأنفسهم لاحقاً. المعروف عن روايات دوستويفسكي، أنها غير مُحْكَمَة البناء، ومُصابة بترهلات وحشية، لا غنى عنها في النهاية، ومكتوبة بلغةٍ رديئة. يقصد دوستويفسكي بالبداية من جديد، الفكرة العامة للرواية، الخطوط العريضة لها. فكرة أن يقتل راسكولنيكوف المرابية العجوز في "الجريمة والعقاب"، أم لا. أمّا تفاصيل القتل المرعبة، مثل تفصيلة خياطة جيب للساطور داخل البالطو، أو نسيان باب شقة المرابية العجوز أليونا، مفتوحاً أثناء قتلها، ثم قتل ليزافيتا شقيقة المرابية، صدفةً، لمجرد ظهورها على عتبة الباب، فهي لا تحتاج من دوستويفسكي، بدايات جديدة، ولا مجال لخزلانه هنا، هذا نبع يغرف منه كيفما شاء. تكمن كل قدرات دوستويفسكي الفريدة، في حركة شخصياته، ذات الطابع المَرَضي، وما يعطي قيمةً ل"الجريمة والعقاب"، لا الفكرة في حد ذاتها، بل طريقة عرض راسكولنيكوف لفكرته، وسعيه الجسدي لتنفيذ الفكرة، وكما قدَّم يده وقلبه لصديقته سوسلوفا، يُقدم أيضاً، وفي سبيل إنقاذ العالَم، يده وقلبه، إلى أليونا وليزافيتا، لكن اليد هذه المرة، كانت تحمل ساطوراً.

كان دوستويفسكي يعمل في القسم الأخير من "الجريمة والعقاب". كتب حوالي ألف صفحة في عام واحد. كان مريضاً. وكان يتوقع في كل يوم، نوبة صرع، أو زيارة مجهولة، أو رسالة من دائنيه. كتب إلى أ. ف. كورفين كروكوفسكا في 17 يوليو (تموز) 1866: "إنني مقتنع أنه لا أحد من كتَّابنا، الأحياء، أو الأموات، عمل أبداً في مثل هذه الظروف. إن تورجنيف الرقيق، الناعم، كان ليموت عند مجرد التفكير في ذلك". الكلمات التالية تنطبق على "الجريمة والعقاب"، ومعظم أعماله الأخرى. "غالباً ما حدث في حياتي الأدبية، أن بداية فصل، أو قصة تكون قد أُرْسِلتْ بالفعل إلى آلات الطباعة، بينما البقية كانت لا تزال في رأسي، ولا بد من أن تُكتب في اليوم التالي". ينفي شُرَّاح دوستويفسكي الكبار، ميخائيل باختين، أندريه جيد، ي كارياكين، أن يكون للصرع دور واضح في الحكم الجمالي على روايات دوستويفسكي، حتى لا تُلوَّث الموهبة بعامل خارجي، فتبقى أبداً عصية على التفسير، ولأن مرضى الصرع، بأعداد لا تُحصى، وليسوا في عبقرية دوستويفسكي، كان إقصاء المرض نوعاً من الفاشية الجمالية التي لا تقبل المُنَاقَشَة. لكن لماذا لا يكون المخرج الجمالي، في مُضاعَفَة التلوث، وحقن نقاء الموهبة بمادة مضادة. وتكون القاعدة الجديدة هي، الفن كله مرض واستثناء، وبالطبع يكون دوستويفسكي سوبر المرض، فائق المرض، أي أن مرضى الصرع جميعاً، بجواره، أسوياء.

في رسالة إلى أخيه مؤرخة في 9 أكتوبر (تشرين الأول) 1859، كتب دوستويفسكي: "تذكر أنني أخبرتك عن رواية- إعتراف- أردتُ كتابتها بعد أن كتبت كل الروايات الأخرى، وهي التي لا أزال أنا نفسي أعيش فيها. وقد قررت الآن أن أبدأ العمل فيها، وبدون تأجيل. وسوف تكون الرواية مؤثرة، ومملوءة بالمعاناة، إن قلبي النازف كله سوف يوضع فيها. لقد كونت الفكرة في الماضي، في أيام سجني، وأنا راقد على سرير خشبي بلا مرتبة، وفي لحظة مرارة وحزن، عندما بدا أن كلاً من عقلي وجسمي يتداعيان. هذا (الاعتراف)، سوف يوطدني أخيراً ككاتب. الحقيقة أن أبطال دوستويفسكي منذ أولى رواياته "الفقراء"، يعترفون أمام أهون سبب، وبسهولة مطلقة، يندفع الأبطال في سيل جارف، من الاعترافات، وغالباً اعترافات تحط من كرامة الأبطال، ويبقى الفني في تلك الاعترافات، وهو ليس بالقليل، حملها الثقيل من العاطفة، والانفعال المرضي، وعدم جدواها، وطريقة عرضها العاصفة. الاعتراف يتطلب الخضوع، والخضوع قد يعني السجود، أو الركوع. يقول راسكولنيكوف: إنني لا أجثو فقط أمامك، بل أمام كل المعاناة الإنسانية. وفي ركوعه أمام الإنسانية، يتوقف العقل والقلب عن تحطيم كل منهما الآخر، وقد يتحول ركوعه أمام إنسانية مُعذَّبَة، إلى ركوعٍ أمام إنسانية سعيدة. ها هو حلم فيدور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي، العاري. وحدة العقل والجسد، وحدة كل الناس على الأرض، في الماضي، والحاضر، والمستقبل، وكلما تأجج حلمه، كلما ابتعد عن الواقع.