سميرة الخليل.(أرشيف)
سميرة الخليل.(أرشيف)
الأحد 22 أكتوبر 2017 / 20:07

سميرة الخليل وبطولة الناس العاديين!

إسماع صوت الضحية، وتمكينها من الكلام، يكتسب مع كتاب كهذا قيمة مُضاعفة، فصاحبته شاهدة وضحية في آن، وليس في شذرات وانطباعات يومية، تغطي فترة زمنية قصيرة من عمر ثورة السوريين

لم يسبق لنظام أن شن الحرب على شعبه، فقصفه بالطائرات، والصواريخ، والبراميل المتفجّرة، كما فعل نظام آل الأسد بالسوريين. يعرف هذه الحقيقة ما لا يحصى من الناس في أربعة أركان الأرض. ومع ذلك، وعلى الرغم من حقيقة أن مشاهد القتل تصدّرت نشرات الأخبار المصوّرة على مدار السنوات الست الماضية، إلا أن ما فيها من تكرار، وكثافة، وبشاعة، خلق نوعاً من التشبّع البصري، والتبلد الذهني، وكلاهما يُسهم في دفع التفاصيل الصغيرة، أي كل ما يتصل بحياة وبطولة الناس العاديين، إلى خلفية المشهد.

لذلك، يحتل كل استثناء في هذا الشأن مكانة مرموقة. فمَنْ تسقط البراميل المتفجرّة فوق رؤوسهم، وتصطادهم الطائرات، هم بشر، نساء ورجال وأطفال، لهم حيوات فردية، ولكل منهم قصته وروايته الشخصية، ونصيبه من الأذى. وبهذا المعنى يمثل كتاب سميرة الخليل "يوميات الحصار في دوما 2013" الصادر قبل عام إضافة جديدة ومطلوبة، لإسماع صوت الضحية وتمكينها من الكلام.

والواقع أن إسماع صوت الضحية، وتمكينها من الكلام، يكتسب مع كتاب كهذا قيمة مُضاعفة، فصاحبته شاهدة وضحية في آن، وليس في شذرات وانطباعات يومية، تغطي فترة زمنية قصيرة من عمر ثورة السوريين على نظام آل الأسد، ما يشي أنها كانت مشروعاً لكتاب، أو مرافعة سياسية مطوّلة، بل هي مجرّد خواطر يومية أضفى عليها قدر صاحبتها، التي اختطفتها عصابة إسلاموية، في أواخر العام 2013، خصوصية فريدة.

فهي لا تشهد على عنف النظام وحسب، بل وعلى عنف آخر مكافئ وبديل تجلى في صعود جماعات الإسلام السياسي، التي اختطفت ثورة السوريين بالعنف، وأفرغتها من الجدارة الأخلاقية والسياسية، ليجد الشعب نفسه بين مطرقة النظام ورحى جماعات أصولية تكفيرية لا تعنيها مسألة الحرية، ولا المضامين الديمقراطية والإنسانية للثورة بقدر ما يعنيها اختطاف الشعب، واحتلال البلد. وفي سياق كهذا أصبحت سميرة الخليل، وهي سجينة سابقة، وناشطة سياسية مُعارضة، ضحية النظام ومعارضيه الإسلامويين في آن. فالنظام سجنها ولاحقها، وهؤلاء اختطفوها، ولم يظهر لها أثر حتى الآن.

وربما لم يكن لانطباعات كهذه أن ترى النور، لولا تجميعها، وتحريرها، ونشرها من جانب ياسين الحاج صالح، زوجها، الذي أنفق 16 عاماً من عمره في سجون النظام، وانحاز إلى الثورة، كما فعلت سميرة، منذ يومها الأوّل. وقد انحاز كلاهما إلى قضية عادلة، اعتنقها ودافع عنها على مدار سنوات طويلة، بما لديه من أدوات.

والمهم، في هذا الشأن، أن ياسين لم يحوّل تجميع، وتحرير، ونشر انطباعات سميرة الخليل إلى قضية عائلية، أو عاطفية (على أهمية الأمرين) بل فعل ذلك لتكريس خصوصية فريدة جعلت من سميرة شاهدة على عنف النظام وعنف معارضيه الإسلامويين في آن، وفي كليهما ما يحيل إلى، ويفسّر، تعقيدات خاصة وسمت ثورة السوريين على نظام آل الأسد، وحكمت وتحكّمت بمصيرها.

وعلى خلفية هذا كله، نقرأ ما كتبت سميرة في الخامس عشر من يوليو (تموز) 2013:
"مقابل بيت صديقتي حديقة لألعاب الأطفال، هي الآن موحشة، تفتقد شغب أطفالها، بهجة حضورهم، مراجيحهم خالية، لا صوت لخناقاتهم على الألعاب، تخبرك الحديقة أنها بحالة حداد على غيابهم، فيها بعض القطط والعصافير العابرة. حين يبدأ القصف يهربون بكل الاتجاهات، ربما غريزتهم تخبرهم أن هذا القصف مميت، نزلت قذيفة من فترة، انصابت شجرة، وتضرر المكان".

بهذا القدر من الاقتصاد اللغوي تكتب سميرة، وأحياناً بقدر من الاقتصاد العاطفي، مع حرص دائم على التفاصيل الصغيرة، الشخصي واليومي منها. ومع ذلك، تتفلّت من هذا الانضباط من وقت إلى آخر، تراوح ما بين فصحى خفيفة، وعاميّة ساخنة وغاضبة لا تنجو حتى من الشتائم، والسخرية المرّة، فالعالم أشاح بوجهه عن عذابات سوريا والسوريين، والنظام بلا ضمير أو شفقة، ومع ذلك في بطولة الناس العاديين، وقدرتهم على اجتراح معجزة البقاء اليومية، ما يسمح لها ببارقة أمل من وقت إلى آخر.

ولا يبدو من قبيل المجازفة القول إن الشخصي واليومي والخاص في انطباعات سميرة الخليل لا يقتصر على، ولا يتوقف عند، حدود تجربتها الشخصية، فأشياء كهذه قد جالت، ولا تزال، في أذهان ما لا يحصى من السوريات والسوريين. كل ما في الأمر أن صوتها (وهي الصامتة، والغائبة الآن في مكان ما) يُسمعنا أصواتهم الضائعة في زحمة وكثافة وفوضى الأحداث. ومع أصوات كهذه، وفيها، تتجلى بطولة الناس العاديين في أزمنة الحرب.