كتب عن التراث الإسلامي.(أرشيف)
كتب عن التراث الإسلامي.(أرشيف)
الخميس 16 نوفمبر 2017 / 20:25

التصوف المعتدل الذي اتفق عليه فضلاء الأمة وثقاتها

التدين الروحي السامي بات مطلبًا ملحًّا للمسلم المعاصر، من أجل العودة بالمفاهيم الدينية إلى سياقاتها الأصلية. فالمجتمعات العربية المعاصرة تفتقر إلى الروحانية

إذا كنّا سنربط أيَّ سلوكٍ متطرف ضال ونلصقه بالتديّن المشوه والمنقوص، فإننا بهذا لا نرتكب جرماً في حقّ الإسلام وأهلِه، لذا يجب أن نميز الصالح من الطالح، والخبيث من الطيب، ولهذا قال الشيطان إنّ ألد أعدائه وخصومه هم المخلصون الذى يسبق إخلاصهم تدينهم، والغواية في الأغلب لغير المخلصين. قال تعالى (فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ).

فالسعادة الإيمانية التي تسعى إليها الأديان السماوية عبارة عن لحظات روحية ترنو اليها النفوس وهي ثمرة التقوى فى قلب المؤمن المخلص، ولهذا كان أكثر ما يبهر الغرب والشرق في الإسلام جانبه الروحي، فالنزعة الروحية في الإسلام ساهمت في نشر الإسلام دون سلاح في إندونيسيا وماليزيا وأفريقيا، بل نشر هذا النشاط الروحي في المشرق الهندي وجنوب شرق آسيا، واختلطت كلّ المفاهيم الروحية الإسلامية مع ثقافات الشعوب وتجانست معها كونها نابعة من الروح الإنسانية في حركتها للوصول إلى الكمال الأخلاقي، والمشروع الحضاري المدني؛ وكان منهجاً راقياً تجانست داخله مفاهيم السلام والاعتدال وتصوّرات البناء والتطوّر، فنمت داخل تلك التجمعات الروحية المختلفة نوعية من التدين المعتدل بكل مفاهيمه الرامية إلى العدالة والحرية والتنمية، وبذلك اتنتظمت العلاقات الإنسانية و ترسخت مفاهيم حقوق الانسان، لترسي بهذه الأوطان كل قواعد السلام والأمان والاستقرار الوطني.

فالتدين الروحي السامي بات مطلباً ملحّاً للمسلم المعاصر، من أجل العودة بالمفاهيم الدينية إلى سياقاتها الأصلية. فالمجتمعات العربية المعاصرة تفتقر إلى الروحانية، وما يحدث من انتهاك لحقوق الإنسان داخل منظومة تديننا شاهد على المأساة الحاصلة من العنف والقتل والدمار، لأنّ تديّننا المعاصر بعيد عن قيم الحب والرحمة والسلام والقبول بالآخر ونبذ الكراهية، فبدت قيمة الدين قاصرة ومبتورة عن منابعها الأصيلة، والتطرف بات ينخر في جسد الأمة العربية.

ربما النص الديني بقراءة واحدة أضاف لنا عبئاً كبيراً في وعينا الحضاري، وأصبح معولاً للهدم، وتغلغل التدين السلفي المتطرف في مفاصل الأمة، فهو يرى الدين وسيلة لتحقيق السعادة المادية في الآخرة، والحور العين والجنة والأنهار..إلخ، فهو يعبد الله من منطلق الجزاء في الآخرة والحصول على المطامع الحسية لا من منطلق حلاوة الإيمان والأشواق الروحية، وفقدان لذة العبادة والمناجاة، واقتصر اهتمامه على قضايا ذات طبيعة شكلية للعبادات والشرائع، دون الالتفات إلى الحكمة من الجوهر الروحي للممارسة ومدى تطبيق القيم والمبادئ الأخلاقية.

إنه الجفاف الروحي، وحالة من حالات والضمور والفتور الذي يصيب الروح، ما أدى إلى غلبة العدوانية على السلمية، والقسوة بدل الرحمة، والعنف بدل الرفق، وتكفير وقتل المخالفين لهم، وكل ذلك يرجع إلى غلبة الطين على الروح. هذا تديّن يجمع المتناقضات في عقيدته وفكره وتصوره للوجود.

هذه الممارسة لايمكن قبولها في المراحل القادمة، ونتائجها كانت هلك الحرث والنسل والفساد، والطامعون يستغلون هذه الأجواء ويسلبون الأمة تدينها السمح، هناك نوع مختلف من التصوف؛ نوعٌ أتفق عليه فضلاء الأمة وثقاتها"التصوف المقتصد أو المحمود" لتقويم السلوك وتزكية النفوس، ولها ثقافتها الروحية وآفاقها الذوقية العميقة، وشخصياتها الفريدة فقد نهضوا بالدين ونهلوا من المعرفة الألهية، وهو تراث علمي أصيل تم إزاحته بالكامل، جانب كبير من الإسلام مغيب، وإماطة اللثام عن أدواره الخالدة والمؤثرة في التاريخ والفقه الإسلامي، تعتبر روافع جديدة تعيد الاعتبار إلى أهمية مراجعة الاختلالات والتناقضات وتصويب الأخطاء، والوصول إلى آليات تثقيفية أكثر سماحة وإنصافاً لحقيقة الدين الصحيح، إذا أردنا مجابهة الإرهاب وتقويضه على كل المستويات.

لقد كان العلماء من المتصوفة المعتدلين يرفعون الهمم الروحية من خلال الأخلاق، فتصبح النّفس والرّوح والقلب في أعلى مراتب الإيمان وأطهرها، لا تتعارض بالضرورة مع العمل والمبادرة في الحياة. فالتراث الروحي ومخزون الثقافة الربانية تقرّب من أسرار الروح والإيمان، وبشهادة ابن تيمية- شيخ السلفيين- وسمّى أصحابها- بأنهم من صوفية أهل السنة أو صوفية أهل الحديث، أو صوفية أهل العلم،أو مقتصدة الصوفية...أين هى تلك الثقافة الموؤدة والمغيبة ؟!!

وألصق المتشددون مسمّيات هذا الميراث الروحي والأشواق الإلهية جزافاً بأنها من الضلال والشرك والبدع، وبذلك تم اجتزاء الدين من روحانيته النقية والعذبة، ونحن بهذا التراث الغني به لا بغيره نستطيع أن نلغى حواجز الأعراق والأجناس واللغات والاختلافات التشريعية والفقهية، وتعزيز قيم التسامح والتعايش، والغرض هو المنحى الروحي والأخلاقى من التقوى كما يقول الله تعالى" لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ