الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في زيارة إلى الفاتيكان (أرشيف)
الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في زيارة إلى الفاتيكان (أرشيف)
الثلاثاء 12 ديسمبر 2017 / 21:55

الإسلام والعالم: مسارات التعارف والتضامن

1- يتضمن مفهوم التعارف إشارة واضحة إلى الاختلاف والتنوع فعملية التعارف إذا نظرنا إليها على الصعيد الفردي، تقوم على التواصل الذي يتطلب تخطّي العديد من الحواجز، أما على الصعيد الحضاري فإنّ المسالة تتعدى البعد الفردي لتجيء بمثابة تبادل للمعارف والخبرات عن طريق معرفة الأبعاد المتعددة للآخر، بحيث تكون هذه المعرفة سبباً للتواصل الذي يقود إلى التفاهم، فالتضامن.

2- قال الله عزّ وجلّ: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (الحجرات: 13). تشكل هذه الآية منطلق فلسفة التعارف في القرآن وخلاصة لها وسنقوم في النقاط التالية بتأمل جوانبها.

3- يتوجه الخطاب في الآية الكريمة إلى الناس بصرف النظر عن معتقدهم ولغتهم وعرقهم ولونهم وجنسهم فالآية وهي تذكّر بوحدة الأصل الإنساني للبشر، ترى أنّ الأصل في الحياة هو الاختلاف الذي يصنع هويات متعددة ويبني ثقافات ذات خصوصية لا تخفى. لكنّ هذا الاختلاف ينبغي أن يقود إلى التعارف الذي يبني حضارة إنسانية ولا يصنع هويات قاتلة أو يؤدي إلى قطيعة معرفية.

4- تشير الآية إلى أهمية التواصل بين مكونات المجتمع بكل أطيافه وتجلياته حتى يبقى النسيج المجتمعي متماسكاً ولا يتحول إلى مذاهب وطوائف وأحزاب، وقد عبثت الحركات الإسلامية المتطرفة في دول عربية كثيرة بهذا النسيج من خلال نشر الأحقاد والضغائن وثقافة الكراهية وصولاً إلى الصراع المسلح بين تلك المكونات.

5- تركّز الآية على التواصل مع الشعوب التي جاءت في الآية غير معرّفة لتشير إلى لا محدودية هذا التواصل، ولتشير كذلك إلى ضرورة أن تبقى الشعوب ذات هوية مستقلة، فلا تغدو العلاقة قائمة على الاستنساخ وعلاقات المركز والأطراف وصراع الحضارات والتبعية والهيمنة. بل تصدر عن بعد معرفي، فالمعرفة تولد النور وليس النار، ولا تقوم على القوة بل على العقل.

6- استخدمت الآية صيغة تفاعل (لتعارفوا) التي تشير هنا إلى عملية التبادل المعرفي والفكري، ففي هذا الفعل إدراك متبادل للماهيّة وللوجود، والتعارف يتطلب التآلف كما جاء في الحديث النبوي: "الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف". من هنا تنبغي الإشارة إلى دور الحركات المتشددة في صناعة رهاب الإسلام التي أدت إلى تغذية حركة الكراهية للإسلام في الغرب وتصويره بصورة دموية دون أن نتغاضى عن الدور الغربي في صناعة هذا الرهاب. وهو ما أشار له، ولي العهد، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، في زياراته التاريخية للفاتيكان التي سعت إلى تكريس ثقافة التسامح والتعايش والحوار.

7- أسس الراحل الكبير الشيخ زايد دولة الإمارات على مبدأ التعارف وظل يتوقف في أحاديثه الكثيرة عند الآية التي أشرنا إليها. إنّ إيمان الشيخ زايد بالتعارف والحوار يصدر عن شعوره بالمسؤوليّة الأخلاقيّة القائمة على الصدق والوضوح والصراحة، فهو يؤمن بأنّ أصل البشر جميعاً واحد، ومصيرهم واحد، وأنّ التساوي بينهم ينفي أن يكون لأيّ منهم الحقّ في التسلّط على الآخر، كما أنّ الاختلاف في الألوان واللغات هو آية من آيات الله، وسُنّة من سننه الكونية، وقد رأى الشيخ زايد أنّه: "بالحوار تبرز الحقائق" وأنّ هذا الحوار يفضي إلى التعارف.

كان الشيخ زايد يعي أنّ الاختلاف سُنّة من سنن الكون والحياة، ولم يكن يسعى عبر الحوار إلى فرض رأي على رأي آخر، بل كان يهدف إلى تعظيم القواسم المشتركة بين الناس، والتقليل من الخلاف الذي يقود إلى الصراع والعنف، فهو ابن من أبناء الحضارة العربيّة الإسلاميّة القائمة على التنوّع في إطار الوحدة.

8- من يقرأ تصوّرات الشيخ زايد بهذا الخصوص يرى أنّ التّسامح عنده يختلف عن التسامح الذي كان سائداً في أوروبا في القرون الوسطى فالتسامح في تصور الشيخ زايد لا يعني القبول السلبي أو الاضطراري بالآخر. بل إنّه يرى أنّ الآخر شرط مكمّل للأنا وأنّه شريك يصعب إلغاؤه أو الاستغناء عنه. فـ"الإسلام هو دين التوحيد والوحدة والسماحة والسلام والعفو".

9- في ضوء هذا كله صارت الإمارات عنواناً للتسامح والتعايش واحترام الآخر. وليس من شك في أنّ المشروع الإماراتي هذا يجيء للوقوف في وجه دعاة التطرف الفكري وأحادية التفكير والانغلاق، فمكافحة الإرهاب تتطلب عملاً متكاملاً ليس على الصعيد العسكري والأمني فحسب، بل ثمة حاجة لمعالجات تكاملية على الأصعدة الفكرية والثقافية والتربوية والدينية من أجل التصدي لمنابع التطرف وجذور الفكر الإرهابي.

وهنا تجدر الإشارة إلى قانون مكافحة التمييز والكراهية في الإمارات الذي يهدف إلى إثراء ثقافة التسامح العالمي، ومواجهة مظاهر التمييز والعنصرية، أياً كانت طبيعتها، عرقية، أو دينية، أو ثقافية، كما يقضي بتجريم الأفعال المرتبطة بازدراء الأديان ومقدساتها، ومكافحة أشكال التمييز كافة، ونبذ خطاب الكراهية عبر مختلف وسائل وطرق التعبير.

10- إذا كان الصدور عن ثقافة التسامح والتواصل يشكل القوة الناعمة للإمارات، فإنّ الإمارات تجدد التزامها على الدوام بمحاربة الإرهاب والتطرف، فالإرهاب ظاهرة عالمية تتجاوز الحدود والثقافات والأديان، حيث لم تعد هناك دولة أو مدينة في العالم بمأمن من خطره، وقد تسببت الهجمات الإرهابية بأضرار هائلة، منها وقوع آلاف القتلى والجرحى من المدنيين، وتفاقم أزمة المهاجرين، وتدمير الممتلكات والتراث الثقافي، ما يُحتّم على العالم تطوير استراتيجيات الاستجابة الدولية لمواجهة الإرهاب.

11- إنّ الإرهاب يتولد بالضرورة عن قوى فكرية متشددة لا تؤمن بحق الآخر في الاختلاف والاجتهاد، وتصدر عن احتكار للصواب وعن شعور كاذب بالمظلومية، وهذا التطرف يتجلى في مظاهر كثيرة لعل أبرزها:

أولاً التكفير:
يقوم النهج الإرهابي المتشدد على التكفير واستباحة دماء الناس، فهؤلاء الإرهابيون يقتلون المسلمين الأبرياء لأنهم يخالفونهم في الرأي ويتوعدون كل من خالفهم في الدين بالإبادة كما أنهم يكفرون الحكومات والأنظمة التي تحكم بالقوانين الوضعية ويحكمون بردة جميع العاملين في قطاعات القضاء والبرلمان والإدارات الحكومية والجيش والشرطة وهو ما يبرّر سفك دمائهم. لهذا فإنّ هذه القوى تتهم جميع المشاريع الإصلاحية التي تخدم المجتمع بالكفر. وذلك لتبنيهم مفهوماً خاطئاً للحاكمية. ومثلما فعلت الخوارج في الماضي، تفعل شبيهاتها من حركات الإسلام السياسي فتتبنى منظوراً خاطئاً يغرر بالشباب.

ثانياً التعامل العنيف مع غير المسلمين:
لقد وضع الإسلام قاعدة كبرى تقول: "لا إكراه في الدين". لكن المتطرفين يرون في كونهم غير مسلمين ما يسوغ قتلهم. مع أن القرآن لا يمانع في بر غير المسلمين ما داموا مسالمين: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين".

ثالثاً الرفض لمشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية والنظر إلى تلك المشاركة بوصفها مخالفة للإسلام:
مع أنّ القرآن يركز على أنّ الحياة تقوم على عنصري الذكورة والأنوثة. كما أنه في صالح المجتمع أن لا يتم تعطيل طاقات المرأة. بل إنّ بعض هذه التيارات تكاد تشيطن المرأة وتستعيذ بالله من شرورها، لهذا تفرض عليها الكثير من القيود التي تنم عن سوء فهم للإسلام وجهل بعملية استنباط الأحكام الشرعية.

12 - وهنا أشير إلى أنّ الإعلام التكفيري هو من أخطر أدوات الإرهاب، بل إنه والإرهاب وجهان لعملة واحدة. فإذا كان الإعلام يهدف إلى التثقيف والمتعة الراقية فّإنّ الإعلام التكفيري يزرع الفتنة والتضليل ويقود إلى التعصب فالإرهاب. وهنا ينبغي أن يتولى العلماء المعتدلون كشف زيف هذه الدعاوى والرد عليها وتفكيك الأسس التي تقوم عليها.

13- يدمر الإعلام التكفيري كل سبل التضامن بين الناس ويزرع بذور الفتنة والقطيعة بين بني البشر. فالتضامن بين الناس يعزز الانتماء الإيجابي بين الناس ويزيد من التماسك المجتمعي ويعزز المحبة بين الناس. لكن التفكير الإرهابي يقوم على الاحتراب وزرع بذور الفتنة والكراهية والشك. وإذا كان ابن خلدون قد تحدث عن أنّ الإنسان مدني بالطبع فإنّ تنظيم داعش الإرهابي يتحدث عن إدارة التوحش الذي يلغي مسألة التنوع والتعدد والاختلاف.

14- يقول بول ريكور: "الفعل هو دائماً فعل مع الآخرين، ويمكن للتفاعل أن يأخذ شكل تعاون أو تنافس أو صراع". والعلاقة بين الذات والآخر تقوم على تلك الأشكال الثلاثة. فالتسامح هو ممارسة حق التضامن الإنساني كلما دعت الضرورة إلى ذلك كما أن الجمع بين التضامن والتسامح هو الثمرة الطبيعية للتنظيم العقلاني للعلاقات الدولية فإذا كان التسامح هو اقتراح الآراء دون السعي إلى فرضها على الآخرين فإنّ التضامن مع القضايا الإنسانية العادلة سيتحول إلى واجب أخلاقي وتصبح المحبة هي القانون الذي يصون وحدة النوع البشري من كل تمزق واعتداء.

15- باختصار التسامح والتضامن يقودان إلى الاستقرار ومحاربة الإرهاب، دون أن يعني ذلك غياب الأساس القانوني للدولة التي تنظم المجتمع. لهذا يكون التضامن على الخير والعدل أو "على البر والتقوى" كما في القرآن الكريم. فكما يحتاج التسامح إلى مظلة فكرية، يحتاج التضامن إلى مظلة مثالية تخلصه من الأهواء والتعصب.