الممثلان جينفر لورانس وخافيير بارديم.(أرشيف)
الممثلان جينفر لورانس وخافيير بارديم.(أرشيف)
الأربعاء 13 ديسمبر 2017 / 20:11

الأم

من أسوأ علامات الرمزية في فيلم "أُم!"، هي عدم استخدام المخرج للأسماء، فهناك فقط الشاعر، الزوجة، الأم، الابن

يقوم فيلم "أٌم!" 2017 للمخرج دارين أرنوفسكي على فكرة أساسية، تُمثِّل عُصاباً عريقاً في تاريخ مهنة الأدب، وهي عجز الكاتب عن الكتابة، ويتنوع العجز ما بين صمت الشاعر رامبو وانتحاره في التجارة، وبين جنون الشاعر هولدرلين وغرقه في اللاعقل حتى نهاية حياته. بطل فيلم "أُم!"، شاعر أيضاً، وهو الممثل خافيير بارديم، الفاقد لقدرته على كتابة القصائد في زمن ما قبل زمن الفيلم، وهذا يعني للمُشاهِد، منذ اللقطات الأولى التي تستعرض نظرة البطل لقطعة كريستال، ولمحة من حريق لبيت قديم في زمن حلمي، أن طموحات المخرج الفنية، تترفع على الأسباب الدرامية البسيطة التي دفعتْ الشاعر إلى صمته أو جنونه أو عجزه عن الكتابة. لكن النوايا الحسنة لصناعة فيلم عظيم قد تؤدي إلى نتائج عكسية، لا سيما بعد التقدم قليلاً في زمن المُشَاهَدَة، لنعرف أن المخرج دارين أرنوفسكي، يحمل على كتفيه، عبء فيلمين من العيار الثقيل في تاريخ السينما، وهما فيلم "طفل روز ماري" 1968 للمخرج رومان بولانسكي، وفيلم "شايننج" 1980 للمخرج ستانلي كوبريك.

تلعب الممثلة جينفر لورانس، دور زوجة الشاعر، وهي الأم التي ستنتظر مولوداً أثناء الفيلم، وهي أيضاً أُم بالمعنى الرمزي، كما أن البيت الفيكتوري المخيف المُعاد ترميمه من قِبَل الزوجة، هو بيت للجميع، بيت للبشر. إظهار الرموز، والضغط عليها، يكون دائماً على حساب الدراما. كأنّ المخرج قبل أن يكسي شخصياته لحماً ودماً حتى نصدقها ونسير معها، يتعجَّل بإشاراته الكونية الفلسفية التي تتجاوز القصة الدرامية. فيلم "أُم!"، بعلامة تعجب لا تعني شيئاً، يُصنَّف تحت خانة أفلام الرعب النفسي، والكوابيس، والأحلام، وما فوق الواقع. بينما تعتني الزوجة بترميم البيت، وتعمل على توفير الهدوء للزوج، يفشل المخرج في ابتكار مشهد عجز واحد، للشاعر الفاقد قدرته على الكتابة. المخرج دارين أرنوفسكي لا يعرف، أن ابتكار مُحَاوَلَة فشل واحدة، للشاعر داخل الفيلم، تساوي عند المُشَاهِد، إثباتاً سينمائياً لمكانة الشاعر السابقة في كتابة القصائد الفنية. على سبيل المثال، فشل المُحَاوَلَة العظيمة لجاك نيكلسون في فيلم "شايننج"، وهي تتجسد في كتابة جاك لجملة واحدة، بتكرار مرعب، عبر مئات الصفحات. مع أن ستانلي كوبريك على عكس غرور ومُراهَقَة دارين أرنوفسكي، لم يُشر في فيلم "شايننج"، إلى أن بطله كان يملك قدرات في فن الكتابة.

الممثل إد هارس طبيب عظام، زائر غريب يطرق بيت الشاعر وزوجته، وهو يعتقد أن البيت فندق، ويستطيع لهذا تأجير غرفة. يتمسك الشاعر دون زوجته بالطبيب الذي قرأ مؤلفات الشاعر مراراً، وهو معجب بها، وهي مؤلفات غيَّرت حياته. الآن ظهرتْ الرؤية، وكما انتحر رامبو في تجارة السلاح، وهولدرلين في الجنون، ينتحر شاعر فيلم "أُم!"، في المعجبين. هذا الانتحار المهين للشاعر قد لا يُناسب طموحات المخرج الكبرى قبل صناعة الفيلم، لكن زمن الفيلم الفعلي، يكسر أنف المخرج دارين أرنوفسكي، بنواياه الحسنة. انتحار الشاعر في المعجبين، ينفي عَظَمَة صمته. الممثلة ميشيل فايفر تأتي وراء زوجها إلى بيت الشاعر. الطبيب وزوجته يتسببان دون قصد في كسر قطعة الكريستال، وهي أغلى ما يملكه الشاعر. يتصاعد كابوس الاقتحام سريعاً بمجيء الابن الأول للزوجين ثم مجيء الابن الثاني. بيت الأم يتحول إلى ساحة فوضىوية. يتشاجر الشقيقان، فيقتل أحدهما الآخر، وهذا ضغط آخر على الدراما لحساب الرمزية. قابيل يقتل أخاه هابيل. تتشرب الأرضية الخشبية بقعة الدماء. هنا نلاحظ تأثير المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ على دارين أرنوفسكي، فبقع الدماء، شبه حية، قاتمة، لها قوام، تنفذ في الجدارن والحوائط، وأحياناً تعود. من أسوأ علامات الرمزية في فيلم "أُم!"، هي عدم استخدام المخرج للأسماء، فهناك فقط الشاعر، الزوجة، الأم، الابن. المعجبون بالشاعر، يتحولون إلى مخربين عدوانيين، يحطمون بيت الأم. تخبر جينفر لورانس، زوجها خافيير بارديم، بأنها تحمل الآن طفلها. تنفك عقدة الشاعر، وتأتيه لحظة الكتابة. خصوبة متزامنة تتناقض مع أنانية الشاعر طوال الفيلم، فهو لم يكن يعنيه إنجاب الطفل.

يستعد المخرج دارين أرنوفسكي للنهاية. تزدحم في الفيلم المعاني، وتتضارب الرموز والهذيانات والكوابيس. الاحتفال الهمجي السريالي بعودة الشاعر إلى الكتابة. لوحة شديدة الارتباك تتزامن مع مولد جينفر لطفلها الأول. المعجبون الأناركيون يعتدون على الأم. يدافع الشاعر عن الأم، لكنه يأخذ طفلها بحجة أن المعجبين يريدون لمسه فقط. المعجبون يأكلون الطفل، يمزقون لحمه إرباً. تصرخ الأم، وتتهم الشاعر بقتل طفلها مع المعجبين. يحترق البيت بانفجار كبير. يطلب الشاعر من الأم، العطاء الأخير. تسمح له بأن يشق صدرها. يأخذ قلبها، ويُخرج منه قطعة كريستال.