الناشطة التونسية رجاء بن سلامة.(أرشيف)
الناشطة التونسية رجاء بن سلامة.(أرشيف)
الثلاثاء 26 ديسمبر 2017 / 19:51

بن سلامة واشتباكها الأخير

أخطر ما في الخلط بين الهولوكوست والدعاية المبنية عليه الوقوع في فخ تهمة الدفاع عن النازية الذي ينساق اليه مثقفون عرب بإنكارهم للمحرقة أو تقليلهم من أعداد ضحاياها دون إدراك خطورة التبعات التي تترتب عليهم

لدى الباحثة التونسية رجاء بن سلامة ما يكفي من الحيوية الذهنية والتفكير النقدي للاستعصاء على التنميط ـ وهي تتناول ما وراء الطروحات الاستخدامية والتنظيرات الاستهلاكية لقضايا جوهرية ـ والبقاء في حالة استنفار دائمة لنفض الغموض عن الظواهر وإدامة الاشتباك مع تفريخات القوى الظلامية وتفكيك طروحاتها.

آخر اشتباكاتها كان مع نشطاء اقتحموا المكتبة الوطنية التي تديرها لمنع تنظيم معرض "الدولة المخادعة .. السلطة والدعاية النازية" وهم يرفعون شعارات مناوئة للتطبيع الثقافي مع اسرائيل وأخرى تندد بالصهيونية وتنتصر لفلسطين.

أشار رد بن سلامة على المقتحمين وشعاراتهم ـ التي وجدت صداها لدى محترفي الديماغوجيا ـ إلى أهداف بعيدة عن التطبيع وراء تنظيم المعرض الذي يقارن بين الدعايتين النازية والداعشية مع التوقف عند اشتغال منظمة "اليونسكو" على هذا المبحث في وقت سابق وتمسك خصومها بوجهة نظر ترى في المعرض ما يثير التعاطف مع الهولوكوست وفي مثل هذه السجالات عودة الى البحث عن حلقة مفقودة للاجابة على سؤال لم يحظ بما يستحق من نقاش بين نخب تناولت الموقف العربي المفترض من المحرقة واستخداماتها الإسرائيلية.

أخطر ما في الخلط بين الهولوكوست والدعاية المبنية عليه الوقوع في فخ تهمة الدفاع عن النازية الذي ينساق اليه مثقفون عرب بإنكارهم للمحرقة أو تقليلهم من أعداد ضحاياها دون إدراك خطورة التبعات التي تترتب عليهم ومن بينها إعادة استخدام وجهات نظرهم في تسويق اتهامات اللاسامية.

يفوت الذين أخطأوا تقدير خطر الوقوع في الفخاخ مداخل متاحة للخوض في القضية دون خطايا يمكن تجييرها في تغذية الفهم الاستشراقي الغربي لشعوب المنطقة ومن بين هذه المداخل التعبير الصريح عن رفض انتهاك إنسانية الإنسان، بما في ذلك اليهود الذين قتلهم الجيش النازي.

في هذه السياقات تندرج أيضاً أهمية الإشارة إلى ضرورات تجنب تديين الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي الذي أخذ عدة أشكال طيلة العقود الماضية دون أن ينحرف ليأخذ شكل التناحر بين المسلمين واليهود ـ مع بعض الاستثناءات التي لا يمكن البناء عليها ـ ويمكن العودة إلى عدد من الحقائق لتأثيث هذه الرؤية من بينها حالة التعايش الديني في فلسطين قبل ظهور الحركة الصهيونية وشعار الدولة الواحدة الذي كانت ترفعه الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة في بداياتها ووجود طائفة يهودية فلسطينية في الضفة الغربية ومواقف نخب يهودية رافضة للاحتلال.

علاوة على ظهورهم بمظهر المدافع عن النازية وتوسيع دائرة العداء لتشمل اليهود في بقاع الأرض يفتح النشطاء الذين اقتحموا المكتبة الوطنية هامشاً آخر للنقاش بربطهم بين فهمين مغلوطين لـ"الهولوكست" و"التطبيع" مع اسرائيل. ففي معادلتهم المشروخة وتحركهم غير المسؤول تعويم لمفهوم الضحية الذي بني عليه الخطاب الفلسطيني طيلة العقود الماضية الامر الذي اقتربت منه بن سلامة ولم تتوسع فيه حين حذرت من تحويل القضية الفلسطينية إلى أداة لتصفية الحسابات .

وبفعل الاختلالات المفاهيمية المتراكمة حول الموقف من الهولوكوست والممارسة الارتجالية غير المحسوبة النتائج ضاعت فرصة لمقاربة نخب فكرية وأكاديمية تونسية بين شكلين من التطرف وتوسيع مساهماتها في تصويب أخطاء شائعة وربما سد بعض فجوات الوعي.

تخوض بن سلامة اشتباكها مع خصومها بعدة مفاهيمية انضجتها سجالات ومعارك سابقة مع مظاهر التطرف الديني لكن قدرة الباحثة وأدواتها لا تعفي الأوساط الفكرية والثقافية في مشارق الوطن العربي ومغاربه من التأكيد على حق مناقشة الظواهر في مناخات توفر حرية البحث العلمي كما يستدعي حدث المكتبة الوطنية التونسية وتبعاته العودة لمناقشة ما بقي مبهما من التاريخ وقضايا الصراع وتصويب العالق في وعي انصاف المثقفين.