المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد.(أرشيف)
المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد.(أرشيف)
الأربعاء 10 يناير 2018 / 20:11

التاريخ ولحن التكرار

يُشبِّه إدوارد سعيد فكرة التكرار عند فيكو بالتقنيات الموسيقية المُوظَّفَة للإتيان بالتكرار، تقنيات اللحن المحوري، والألحان الثانوية التي تهاجم اللحن المحوري، المُستسلم للغياب ظاهرياً ثم يعود ظافراً، ليؤكد وجوده

أكثر فصول كتاب إدوارد سعيد "العالَم والنص والناقد"، بريقاً وإمتاعاً، هو فصل تحت عنوان "التكرار". وربما البريق والمتعة، لأن التكرار يحمل عَوْداً دورياً، وأبدياً، وبمجرد ذكره، تتهيأ المعاني، ومعاني التكرار درامية تمثيلية بامتياز، لا سيما إذا كان التكرار أحد المفاهيم المزعجة في قراءة التاريخ، الذي يوصف دائماً بالتقدم والاتصال، خوفاً من شبح العودة، وكأنّ العودة هي إهانة لقدرة الإنسان على التعلُّم من الصواب والخطأ في مسار التاريخ. يقتطف إدوارد سعيد من كتاب "العلم الجديد" للفيلسوف الإيطالي جيامباتيستا فيكو ( 1744- 1668) "إن الرجال أنفسهم هم مَنْ صنعوا تاريخ الأمم، لكن هذا العالَم وُجِدَ عن عقل مختلف، أرحب من الغايات الخاصة التي كان الرجال قد وضعوها نصب أعينهم، فالغايات الضيقة للرجال كانت وسيلة لغايات أوسع منها، وكانت مُسَخَّرة على الدوام، لحفظ الجنس البشري. الرجال يقصدون المغامرة، والبطولة، وإشباع شهواتهم، وممارسة سلطتهم الأبوية، بلا حدود، على أتباعهم، ويُخْضعون المدينة لسلطاتهم، فتدور عجلة القوة الخشنة، ثم تتوارى القوة الحشنة، لتترك المجال للقوانين، فتزدهر المدينة بالعلوم والآداب إلا أن الآباء مع مرور الزمن، يتجبرون في استعمال السلطة، فينهض الابن ضد الأب، ويستعين بالقوة النائمة الخشنة في هدم قوانين الأب، وهكذا تنغلق الدائرة في تكرار دوري".

منذ التعليق الأول لإدوارد سعيد على فقرة فيكو، نلمح التردد، أي أن إدوارد مع النظرة التقدمية للتاريخ، مع النظرة المتفائلة، قياساً بنظرة فيكو المتشائمة. التأمل في فقرة فيكو أفلاطوني مثالي. لكن إدوارد بعد الحكم الأولي العام، يتهيأ لاستعراض نظرة فيكو المتشائمة، والسير معها، بل والإعجاب بها أحياناً. يكشف فيكو عن وجود مبدأ، أو قوة نظام ضمن سلسلة من الأحداث التاريخية، لولا هذا المبدأ، أو هذا النظام، لكانت الأحداث التاريخية فوضوية. العقل هو النظام الذي يُفرْمِلَ اللاعقلانية المتسارعة على الدوام في السلوك البشري. فمن قلب حماقة الرجال، ومن قلب البطولات الرعناء، تأتي النتائج النهائية بعيدة المدى، في مصلحة الكائن البشري، المحدود بدورة صعوده المؤقتة، دورة الصعود مؤقتة، لأن العقل ذاته، لا يَعِدُ بحضوره الدائم، لحماية مصلحة الكائن البشري، فغيابه ضروري أيضاً. عزاء إدوارد سعيد، أن حضور العقل أكثر من غيابه، على عكس جيامباتيستا فيكو الذي يرى أن غياب العقل، أكثر من حضوره. وماذا عن إمكانية اتزان العقل في الحضور والغياب زمنياً؟ لا يوجد اتزان، فلو وُجِدَ، لما وُجِدَ التاريخ البشري، القائم على النقصان والاختلال. التاريخ البشري من همجية خالصة إلى عقلانية معتدلة إلى عقلانية بالغة التشذيب ثم إلى همجية جديدة، وبداية جديدة. قد تكون دورة التكرار منتظمة بشكل عام، لكنها تفتقد دقة الكمال السيمتري.

يُشبِّه إدوارد سعيد فكرة التكرار عند فيكو بالتقنيات الموسيقية المُوظَّفَة للإتيان بالتكرار، تقنيات اللحن المحوري، والألحان الثانوية التي تهاجم اللحن المحوري، المُستسلم للغياب ظاهرياً ثم يعود ظافراً، ليؤكد وجوده، ويُضعف الألحان الثانوية، ويمنحها فقط، وجوداً شاحباً، يُشبه قمر ما بعد الظهيرة، فيشعر القمر أنه في حاجة إلى مَنْ يلتفت إليه، فهو الآن بقعة بياض باهتة في سماء اللحن المحوري الصافي، شديد الزرقة، الزاخر بنور الشمس. بكلمات أخرى، اللحن المحوري راسخ ومحافظ، وأبوي، بينما اللحن الثانوي، ثوري وأناركي، ولقيط. وفي ساحة الصراع بينهما، يتم تخفيض الثوري إلى إصلاحي، واللقيط يُفَبْرَك له نسبٌ، وتُفَبْرَك له شهادة ميلاد جديدة. النسب أو القرابة شيء هام عند جيامباتيستا فيكو، فالتاريخ البشري مولود ومنسوخ بنفس الطريقة التي يستولد بها الرجال والنساء أطفالاً، لكن فيكو يؤكد على أن القرابة لا بد لها من اعتماد، لا بد لها من سجل مدني تاريخي، لا بد لها من أرشيف ميشيل فوكو، أرشيف مُعْتَمَدْ ومُوثَّق. الهارب من الأرشيف، الثوري، الأناركي، اللقيط، يخفي رغبته في الأرشيف، ويسعى بشكل لا شعوري لاعتماده، يسعى للتملص من دور المُراقَبْ إلى دور المُراقِبْ. يلاحظ إدوارد سعيد ملاحظته الفاتنة، وهي من ألمع ما جاء في فصل "التكرار"، ففي أرشيف فوكو، شيء شبيه بتكرار فيكو، ألا وهو انتصار نظام الأرشيف الغربي على أناركية الفرد اللقيط، فهناك تقارب مقبول بين توالد البشر البيولوجي لدى فيكو، وبين تناسل المؤسسات العقابية عند فوكو. الصرامة واحدة في النظامين، والهروب الممكن، والوحيد من تلك الصرامة، لا يكون إلا بتأسيس تكرار جديد، وعَوْد دوري جديد.