الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري.(أرشيف)
الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري.(أرشيف)
الخميس 11 يناير 2018 / 20:12

المشروع اللبناني

ليست المشكلة كبيرة ولا وازنة إذ كان يمكن حلّها بدون نزاع عليها، لو كانت الدولة تملك مقوّمات الوحدة، أمّا والأمر غير ذلك فهي وغيرها من مثلها معضلة، وقد تمرّ أشهر عليها بدون حلّ، وقد لا تجد حلاّ على الإطلاق

بعد أن ظهر لبنان من عهد قريب قابلاً للوحدة، واجتمع رؤساؤه الثلاثة، ممثلو الطوائف الأساسيّة على ذات الموقف، سرعان ما عادت الترويكا الرئاسيّة إلى انقسامها الّذي لا ينفصل عن زعاماتها الطائفيّة. الانقسام هذه المرّة لا يتّصل بخلاف مهمّ، بل هو في أصله فصل من حروب الطوائف الجاهزة لكلّ شيْ، أيّا كانت قيمته وجدواه، سرعان ما عاد الانقسام كأنّه هو الطبيعي والعادي، ما عداه استثناء وخروج عن العادة. الخلاف هذه المرّة يعود إلى التسعينات حين كان الرئيس الحالي ميشال عون قائداً للجيش، يتعلّق بدورة للضباط الذين تأخّر التحاقهم بعد فوزهم في الإمتحانات بالجيش.

واليوم يدور الخلاف حول المرسوم الّذي أعدّ للتعويض عليهم. الخلاف الّذي يضمّ من جهة رئيس الجمهوريّة الماروني ورئيس الحكومة السنّي، يضمّ من الناحية المقابلة رئيس مجلس النوّاب الشيعي. ممثلو الطوائف الأقلويّة الأخرى لم يقفوا إلى جهة من الاثنتين، فالخلاف هو بين الكبار وليس لأحد بينهم مصلحة في أن يشترك فيه. موقف "حزب اللّه" جدير بالذكر، وإن أمكن تفسيره، فهو حزب شيعي لا يستطيع بهذه الصفة أن يبتعد عن رئيس مجلس النوّاب فيما هو أيضاً حليف رئيس الجمهوريّة والتحالف معه عضويّ ووازن بل قطب في سياسته المحليّة. لذا يقف حزب اللّه بين الجهتين. ارتأى رئيس مجلس النوّاب كحلّ للمشكل أن يحال المرسوم إلى وزير الماليّة، وهو شيعي من حركة "أمل" الّتي يرأسها رئيس مجلس النوّاب فرفض رئيس الجمهوريّة الّذي يقدّر أن مرسوماً كهذا لا يحتاج إلى توقيع وزير الماليّة، يكفيه أنّ رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة وقّعاه. هذا رأي رئيس الجمهوريّة ولن يتنازل عنه، ولو لتسهيل الحل.

تلك هي المشكلة الّتي لا ينتظر حلّها في القريب العاجل، كثيرون يرجّحون أن تبقى إلى ما بعد الانتخابات المتوقعة في عام 2018. المشكلة إذا أخذنا بظاهرها ذات شقيّن: الأول طائفي يعود إلى نسبة المستفيدين من كلّ طائفة في المرسوم. الثاني شخصي يدور بين الرئيسين وإن لم ينفصل عن الشقّ الأوّل ففي المسألة موقع كلّ من الرئيسين الّذي هو موقع طائفته نفسها. وبقدر ما هي الزعامة شخصيّة هي أيضاً طائفيّة، أول الدوافع لانتخاب عون لرئاسة الجمهوريّة كان استعادة هيبة الرئاسة المارونيّة، وبالتأكيد إصرار رئيس مجلس النوّاب على مرور المرسوم بوزير الماليّة الشيعي الّذي من حركته، معناه أن يمرّ المرسوم أيضاً عبره. هذه الرمزيّة لا تخلو من دلالة طائفيّة، فإيكال وزارة الماليّة على الدوام إلى شيعي يكفل مشاركة الشيعة في قرارات الحكم، وصدور مرسوم لا يحمل توقيعه يعني استبعاد الطائفة وإفرادها. وهذا أيضاً يردّ إلى ماضٍ كانت فيه الطائفة قليلة التأثير.

ليست المشكلة كبيرة ولا وازنة إذ كان يمكن حلّها بدون نزاع عليها، لو كانت الدولة تملك مقوّمات الوحدة، أمّا والأمر غير ذلك فهي وغيرها من مثلها معضلة، وقد تمرّ أشهر عليها بدون حلّ، وقد لا تجد حلاّ على الإطلاق، فإصرار كلّ من الطرفين على موقفه يعزّز رمزيّة المشكلة ويحوّلها بهذه الرمزيّة إلى معيار، أو مثال لموقع الجماعة ونفوذها، وإذا دام الأمر كذلك فكلّ قضيّة لاحقة مهما كان شأنها صغيراً أو كيبراً تتحوّل إلى معضلة ويستحيل حلّها، مما يجعل الدولة قطاعات متنافسة. هكذا لا تبقى الدولة دولة إلاّ بالمعنى الصوري للكلمة. قد يبدو هذا في خدمة الجماعة أو الطائفة وهو، بذلك، يعزّز شأنها ويقوّيها. هذا الرأي بالتأكيد مغلوط، فالنتيجة، في هكذا حال، هي تضييع الدولة نفسها والسماح للجماعات والطوائف بأن تتخطّاها وتعلو عليها، وإذا ضاعت الدولة ضاع معها المشروع المدني بكل ما يعنيه، الدولة كقاعدة لمشروع هو أساس لقيام مجتمع، وقيام ثقافة، وقيام سياسة. ما يحصل في "هذه الحال" ليس احتراب الجماعات فحسب، بل انقضاض الجماعات على الدولة، الّتي وحدها تدير وتفصل في انقسامات المجتمع، وحدها وانطلاقاً منها يمكن بناء ثقافة عامّة ومشتركة. اهتزاز الدولة وتكالب الجماعات على اقتسامها لا ينتهي إلاّ بإنحدار كل جماعة وهوانها.