الشاعر خالد المعالي.(أرشيف)
الشاعر خالد المعالي.(أرشيف)
الإثنين 29 يناير 2018 / 17:44

"أعيش خارج ساعتي"

النصوص هي قريبة جداً من أن تكون مونولوغات داخليّة. وفيها ما يمكن اعتباره تداعيات وما يمكن أن يشبه الهذيان المقصود أو الإعتراف. هذه القصائد هي لوحات بسيكولوجيّة، بل هي من هذه الناحية نوع من سير شعريّة

"اعيش خارج ساعتي" هي المجموعة الجديدة للشاعر العراقي خالد المعالي. الشاعر الذي انتقل من بادية السماوة إلى ألمانيا وهو الآن في بيروت يدير منها دارالجمل الطليعيّة. يكتب المعالي منذ باشر الشعر، قصيدة النثر التي كان من روّادها في العراق، واستطاع مع الوقت أن يتمرّس بها وأن يختطّ لنفسه فيها أسلوباً خاصّاً، وأن يجد فيها قصيدته الخاصة الّتي نلاحظها الآن في مجموعته "اعيش خارج ساعتي" الصادرة عن دار الجمل.

ماهي قصيدة خالد المعالي؟ قد تكون هذه القصيدة جزءاً من قصيدة النثر العراقية التي نمت وشبّت في المنفى. ولعلّ من علائم هذه القصيدة التي يشترك فيها خالد مع سركون بولص وفاضل العزّاوي وآخرين، من أكثر من جيل من الشعراء، اللجوء إلى نثر سيّال يتصل من بعيد أو قريب بحياة صاحبه وبيئته التي تتوزّع بين العراق والمنفى. إنها تمت هكذا إلى سيرة وسرديّات ولغة منحوتة، غناؤها ليس سائباً ولا معاضلاً. إنّه غناء جيّاش في الوقت الذي هو ماديّ أو أقرب إلى الماديّة وأقرب ما يكون إلى نثر الواقع اليومي. يستقبل نثريات الحياة ويتناولها من شتّى مصادرها ويخلط الفانتازيا بالسرد وبالإحتجاج السياسي وغير السياسي، بالغريب السيريالي. ليس هذا التلخيص كافياً أو محيطاً، وإنّما هي ملامح عامّة قد تجوز على غير الفصيدة العراقيّة.

إذا تصفّحنا "أعيش خارج ساعتي" نلاحظ أنّ المعالي يعمل على القالب الشعري الذي يتنوّع لهذا السبب لدرجة يكاد يقارب معها القالب العمودي. ثمّة قصائد تتشكّل من مقاطع رباعيّة يتصّل فيها كلّ بيت بما يليه، بما في ذلك البيت الأخير في الرباعيّة الذي يتّصل بالبيت الأوّل من الرباعيّة التالية له:

"ليس ثمة رسالة، قطرة ماء بإنتظاري
عشّ الحمامة فارغ، الصدى لم يعد
ولا صوت عندي لأطلقه. لم تكن
حياتي إلاّ إستعادة ماضٍ
عشته هنا، أقلّب اليدين".

يمكننا هنا أن نفكّر بالتشكيل الذي يتبعه الشعر باللغات الغربيّة. غير أن ّهذا التشكيل ليس الوحيد في المجموعة، فثمّة تشكيل يحاذي قصيدة التفعيلة (أبيات متفاوتة الطول ينتهي فيها البيت في نفسه). هذه التشكيلات ليست بحت شكليّة وليست زخرفة خالصة. إنّ لها وظيفتها في البناء. بل إنّ البناء لا يستقيم لولاها. ثمّ هناك وظيفتها في الإيقاع. القصيدة على النحو الأوّل عمارة من أحجار متفرقة ومتصلة وطوابق موصولة أيضاً وإيقاع يتجاور فيه الوقف والإتّصال، يتجاور فيه ما يشبه الصمت بالكلام. القالب إذاً ليس سوى رسم للإيقاع والبناء. الفرضية وإن على نحوآخر، تنطبق على ما يحاذي قصيدة التفعيلة. إنّ تداخل الجمل القصيرة الشبيهة بالومضات في التشكيل الأوّل ينتهي بمعمار متماسك تتتالى فيه الفراغات والإمتلاءات وتتداخل.

إذا تصفّحنا القصائد مرورا بالعناوين، إستطعنا أن نجد فيها ما يستوقفنا. العناوين، وكذلك القصائد، تبدو وكانّها قريبة من السرد. ليست سردأ بالطبع وليس للشعر نفسه ما يشبه السرد أو يردّنا إليه. مع ذلك فإنّ للنصوص ما يحيلنا من ناحية او أخرى، إلى ما يشبه الحكاية.

 العناوين هي المثال، لكنّ النصوص أكثر دلالة على ذلك. النصوص هي قريبة جداً من أن تكون مونولوغات داخليّة. وفيها ما يمكن اعتباره تداعيات وما يمكن أن يشبه الهذيان المقصود أو الإعتراف. هذه القصائد هي لوحات بسيكولوجيّة، بل هي من هذه الناحية نوع من سير شعريّة. وهي إذا قرأناها من هذه الناحية، تبدو اعترافات بالقدر الذي يمكن فيه للشعر أن يبدو اعترافا. لست أتكلم عن اعترافات حقيقيّة بل عن شعر يريد لنفسه أن يبتعد عن صيغ التهويل والغناء المبالغ فيه والترجيع والتنميق. ويختار للغته أن تبدو خارج ذلك كلّه، يختار لها أن "تبدو حقيقيّة"، أي إنّه يكتب بالصور كما يُنسب إلى الشعر وكما يقال عنه، لكن الصور هنا ليست طّنانة ولاخطابيّة ولا تهويليّة ولا ترجيعيّة، إنّها صور تشبه الحقيقة. هكذا نحن أمام قصائد تشعر بالسيرة بدون أن تكون سيرة، وتتبع البلاغة بدون أن تكون بلاغيّة. إنّها تختار لنفسها أن تخرج من تلك الصيغ وأن تختار لنفسها صيغا مونولوغيّة متداعية، أي ما يشبه الواقع والحقيقة أو يبحث عنهما.