الوعي الباطن (تعبيرية)
الوعي الباطن (تعبيرية)
الأحد 4 مارس 2018 / 18:47

ما هو الحدس؟

لا أعرف مصطلحاً فلسفياً تعدد الخلاف فيه وتغير فهمه كالحدس. ما هو الحدس؟ قبل أن نخوض في هذا النهر ينبغي التساؤل، هل لهذا البحث فائدة عملية تُرضينا كبراغماتيين، أم أن الحديث سيكون كدرس فلسفي ممل؟ أعتقد أن لتصور هذه الحدود فائدة معرفية ليست بالهينة.

للإشراقيين تفسير مختلف، فهم يرون أن الحدس ارتقاء النفس الانسانية إلى المبادئ العالية حتى تصبح مرآة مجلوة تحاذي شطر الحق، فتمتلئ من النور الإلهي الذي يغشاها، من دون أن تنحل فيه انحلالاً تاماً

لقد تعلمنا من نظرية المعرفة، ثلث الفلسفة الأهم، أن الوسائل التي تقودنا إلى المعرفة ثلاث.

1- الحواس الخمس التي يرى التجريبيون والمدرسة الفلسفية البريطانية وأتباعها في فرنسا وأمريكا أنها الوسيلة المعرفية الصحيحة الوحيدة.

2- العقل وهو وسيلة المثاليين من أفلاطون إلى هيغل والمثالية الألمانية، وسيلة لا يرون لها قريناً، في حين يحتقرون المعرفة التي تأتي بها الحواس ويعدّونها وهماً.

3- القلب، ويُقصد به العاطفة، وهو ما عناه بليز باسكال في معرض دفاعه عن الدين عندما قال: "إن للقلب دروباً لا يعرفها العقل". هذه صورة من صور الحدس.

لكن هذا المصطلح قد استخدم، كما أسلفت بمعانٍ لا تتطابق، وكل المدارس الثلاث استخدمته بمعنى لا يمت بصلة للمعنى الذي استخدمته المدرسة الأخرى. غرض هذه المقالة هو إزالة اللبس وتحرير المصطلح وإظهار أوجه الاختلاف.

الحدس في اللغة هو الظن والتخمين، والنظر الخفي، والضرب في الأرض على غير هداية، والحدس هو الرمي، والسرعة في المسير، والمضي على غير استقامة ودون استمرار.

أما الفلاسفة فقد تباينت دروبهم في تفسيره. فسره ابن سينا بأنه "سرعة الانتقال من معلوم إلى مجهول". وفسره الجرجاني صاحب "التعريفات" بأنه "سرعة انتقال الذهن من المبادئ إلى المطالب". ورأى التهانوي أن الحدس "هو تمثل المبادئ المترتبة في النفس، دفعة واحدة من غير قصد واختيار، سواء بعد طلب أو لا، فيحصل المطلوب". يقصدون بسرعة الانتقال أن تتمثل المعاني في النفس دفعة واحدة في وقت واحد، كأنه وحي أو وميض برق.

وللإشراقيين تفسير مختلف، فهم يرون أن الحدس ارتقاء النفس الانسانية إلى المبادئ العالية حتى تصبح مرآة مجلوة تحاذي شطر الحق، فتمتلئ من النور الإلهي الذي يغشاها، من دون أن تنحل فيه انحلالاً تاماً. هذا الامتلاء من النور الإلهي هو الكشف الروحي، أو الإلهام.

مع مجيء أبي الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت، أخذ المصطلح معنى آخر، فقد اعتبره "الاطلاع العقلي المباشر على الحقائق البديهية" يقول ديكارت : "أنا لا أقصد بالحدس شهادة الحواس المتغيرة، الحدس التجريبي، ولا الحكم الخدّاع لخيال فاسد المباني، إنما أقصد به التصور الذي يقوم به ذهن خالص منتبه، بدرجة من السهولة والتميز، لا يبقى معها مجال للريب، أي التصور الذهني الذي يصدر عن نور العقل وحده".

هذا الكلام مشكل.

التجريبيون وإن استخدموا مصطلح الحدس ليتوافق مع منهجهم إلا أنه من الواضح أن الحدس ليس من مصطلحاتهم الأصيلة الأساسية التي تعبر عن مذهبهم. لذلك يبقى النزاع قوياً فقط بين المدرستين الثانية والثالثة، ومن الواضح أن ديكارت قد وثب به وثبة أبعدته عن طريق القلب والعاطفة، وأنه حاول أن يجيّره، مصطلحاً عقلياً خالصاً.

الحدس عنده عمل عقلي، على خلاف ما اعتدنا تصوّره، يدرك به الذهن حقيقة من الحقائق، يفهمها بتمامها في زمن واحد وبشكل فوري.

بعد ديكارت سار العقليون على نفس التصور، فهذا غوتفريد لايبنتز يعتبر أن الحقائق الأولى التي نعرفها بالحدس نوعان: حقائق العقل وحقائق الواقع.

وهذا إيمانويل كنت في "نقد العقل الخالص" يعتبر أن الحدس هو الاطلاع المباشر على معنى حاضر بالذهن من حيث هو ذو حقيقة جزئية مفردة.

عند آرثر شوبنهاور، الحدس معرفة تحصل للذهن دفعة واحدة من دون نظر أو استدلال عقلي.

هذا ينطبق على تمثل الأشياء، وأيضاً على تمثل العلاقات بين الأشياء، وأكمل صور الحدس عند شوبنهاور هو الحدس الجمالي الذي ينسى الإنسان فيه نفسه في لحظة معينة من الزمن فلا يدرك إلا حقيقة الشيء الذي يتأمله.

إمعاناً في الابتعاد عن التفسير العقلي للحدس، نجده عند الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، فهو يعتبر الحدس عرفاناً من نوع خاص، يشبه عرفان الغريزة بحيث ننتقل إلى باطن أي شيء، ونطلع على ما فيه من طبيعة مفردة لا يمكننا أن نعبر عنها بالكلمات. إنها معرفة مختلفة تماما عن المعرفة الاستدلالية التحليلية التي لا علم لها إلا بظواهر الأشياء.

أما هنري بوانكاريه فيرى أن الحدس حكم سريع مؤكد، أو هو تنبؤ غريزي بالوقائع أو بالعلاقات المجردة. هذا الحدس شعور بنظام رياضي يكشف لنا عن العلاقات الخفية.

من كل هذا، نستخلص أن الحدس اطلاع النفس المباشر على ما يمثله لها الحس الظاهر أو الحس الباطن من صور حسية أو نفسية، أو كشف الذهن عن بعض الحقائق بإلهام مفاجئ، لا على سبيل القياس، ولا الاستقراء ولا الاستنتاج، وإنما على سبيل المشاهدة التي ينبلج فيها الحق انبلاجاً.

إذا قلنا إن الحدس ليس فيه قياس ولا استقراء ولا استنباط، باعتراف الفلاسفة العقلانيين أنفسهم، فما هي الأداة التي وصل إلينا من خلالها الحدس؟ وكيف ينبلج في النفس انبلاجاً بدون نظر ولا إعمال فكر؟! ولماذا نقول إن هذا الكشف قد وقع للعقل ولا نقول إنه وقع لما هو أسمى من العقل: الروح؟! العقل لا يقبل الكشوفات التي تقع هكذا بدون استدلال وجدال.

لا شيء يمكن أن يكون عقلياً دون نظر وإمعان فكر.

أما الذي ينبلج في النفس دون فكر فهو الكشف الصوفي وحده، ورغم أن الحدس قد تقاسمته المدارس بحيث أصبح هناك حدس تجريبي وحدس عقلي وحدس فلسفي وحدس صوفي، إلا أن مناقشة الأقوال تؤكد أن المصطلح سيبقى صوفياً بامتياز.