"النظرية الثقافية والثقافة الشعبية" لجون ستوري.(أرشيف)
"النظرية الثقافية والثقافة الشعبية" لجون ستوري.(أرشيف)
الخميس 15 مارس 2018 / 20:08

من النخبويّ إلى الشعبوي... بافاروتي وآخرون!

عمليات التحوُّل من النخبوي إلى الشعبوي أو العكس كانت عمليات ثقافية تراكمية على مدى العصور الإنسانية في اشتباك الثقافات والحضارات وتعالقها مع بعض

"النظرية الثقافية والثقافة الشعبية" هي مقاربة ثقافية لجون ستوري أستاذ الدراسات الثقافية ومدير مركز بحوث الدراسات الإعلامية والثقافية بجامعة سندرلاند في المملكة المتحدة . قدّم في هذه المقاربة المهمة مصدراً أساسياً للحديث عن الثقافة الشعبية خاصة في القرنين العشرين والحادي والعشرين. ولم يكتفِ جون ستوري بسرد المداخل المنهجية فقط في سياقاتها التاريخية والمنهجية التي صدرت عنها؛ فقد أعطى أمثلة كثيرة معاصرة عن انهيار الحدود الثقافية الفاصلة بين النخبوي والشعبوي ومنها هذا المثال المهم جداً: ففي 30 يوليو(تموز) 1991 قدّم المغني الأوبرالي العالمي بافاروتي حفلاً موسيقيًا مجانيًا في الهايدبارك في لندن، والمذهل أنه قدَّم عرضاً أوبرالياً في وسط شعبي شَهِدَ حضوراً كثيفاً رغم غزارة الأمطار المتساقطة آنذاك، واكتسحت أخبار هذا الحفل الصحف الشعبية البريطانية مثل الديلي ميرور وصحيفة الصن وغيرهما. وقالت إحدى الحاضرات: "لا أستطيع تحمل الذهاب إلى دور الأوبرا بأزياء أنيقة ودفع مائة جنيه للمقعد". إنَّ بافاروتي الذي التصق اسمه بالنخبوية المطلقة كسر هذا الحاجز وانطلق إلى منطقة الشعبي لتصبح الحفلة التي قدّمها في الهايدبارك واحدة من أكثر الأغاني شعبية وجماهيرية!

في القرن الثامن عشر أدرك الموسيقي عازف الكمان الإيطالي فيفالدي في كونشرتو"الفصول الأربعة" أهمية جذب المتلقين على اختلاف طبقاتهم؛ فكانت حفلاته التي كان يعقدها في الساحات في الهواء الطلق جاذبة لطبقات مختلفة في المجتمع، وليس فقط للطبقات الأرستقراطية. لقد جعل فيفالدي الموسيقى سردًا رائعًا يحاكي أصوات الطبيعة من الفصول الأربعة بتنويعاتها ويحاكي حتى البشر بتمثيلاتهم المختلفة. وهذا ما جعل موسيقى فيفالدي رغم مرور أكثر من ثلاثة قرون على إنشائها جاذبة للمتلقين وذات شعبية رائعة! لقد أدرك بذكاء كيفية المزج بين الشعبوي والنخبوي!

عندما تحضر عرضاً أوبرالياً حتى في أعرق دور الأوبرا في أوروبا يستطيع بعض الجمهور الذين اختاروا أن يأتوا بملابسهم العادية الحضور دون اشتراط ملابس معينة فاخرة وتليق بالحدث، بل لربَّما تبدو النساء المتأنقات جداً والرجال المتأنقون جداً وكأنهم آتون من حقبة تاريخية انتهت واندثرت! في دور الأزياء العريقة مثل شانيل وكريستيان ديور وإيف سان لوران وغيرها هناك تعمّد واضح لاتباع استراتيجية ثقافية متعلقة بإدخال الشعبي جنباً إلى جنب الموديلات الكلاسيكية الفاخرة.. وقد تُصقع أيقونة الأزياء الفرنسية المصممة كوكو شانيل لو عادت إلى الحياة ورأت ماذا حدث لخطوط أزيائها من التاييرات والمعاطف والأحذية والحقائب من إدخال بعض الموتيفات الشعبية فيها، ستُذهل وهي التي كانت حريصة جداً على التأنق حتى في تعطير منزلها الفخم يومياً بعطرها المفضل شانيل رقم خمسة، وهي التي كانت مهووسة بالتأنق حتَّى في الذهاب إلى مشاويرها اليومية الاعتيادية، والتأنق حتى في اختيار قبرها الذي جعلته تحفة معمارية استثنائية!

إنَّ عمليات التحوُّل من النخبوي إلى الشعبوي أو العكس كانت عمليات ثقافية تراكمية على مدى العصور الإنسانية في اشتباك الثقافات والحضارات وتعالقها مع بعض، فعلى سبيل المثال ينُظر الآن إلى مسرح ويليام شكسبير على أنَّه أنموذج من نماذج الثقافة الرفيعة في الحين الذي كانت فيه أعماله المسرحية حتى نهاية القرن التاسع عشر تُعد جزءاً من المسرح الشعبي، والآن عندما نحضر عرضاً مسرحياً في شكسبير غلوب وهو المبنى التاريخي للمسرح شكسبير لن نشاهد سوى عروضٍ مسرحية أقرب إلى الشعبوية في سينوغرافيا المسرح وأقرب إلى التعدديات الثقافية في ممثليها لكسر النخبوية الإنجليزية والمركزية الأوروبية! ويمكن أن يُقال الشيء نفسه عن أعمال تشارلز ديكنز التي كانت شعبوية فأصبحت نخبوية! وفي عصر يحتفي بالتنوعات الثقافية صار هناك ذلك الحرص المتعمد على التمازج والتناغم الخلّاق للغاية بين ثقافات متعددة دون وضع فواصل وحدود وصور منمطة لها كما جرى ذلك في أدبيات بعض النقاد ممن يصرون على الفصل بين الرفيع ثقافيًا والشعبي! لقد صرنا في عالم يحتفي بالفعل بهذا التمازج في مختلف أشكال الثقافات وتعبيراتها وتمثيلاتها خارج الحدود والفواصل وخارج أطر المركزيات.