صورة رمزية.(أرشيف)
صورة رمزية.(أرشيف)
الأحد 18 مارس 2018 / 19:24

ماذا يفعل الثوريّون بالجماهير؟

خذ على سبيل المثال، أي مواطن عربي يجلس في كل وقت فراغه أمام قناة الجزيرة، وتحدّثْ معه. لن تجد في حديثه سوى السوداوية والغضب والألم والحزن والرغبة في الانتقام

لو أنك قمت بدراسة مسحية للعلاقة بين الخطاب الثوري والشعب، فإنك بلا شك ستلاحظ الأثر السلبي الواضح على سعادة الناس وراحتهم. الثوري ينتزع الإنسان من حياته العادية المستقرة، ليدخله في دوامة لا قبل له بها.

الثائر السياسي، ببساطة، شخص أو مجموعة من الأشخاص يجمعهم الانتماء لأيديولوجيا معينة، والرغبة في الاستيلاء على كرسي الحكم، لاعتقادهم أنهم سيُنجزون العمل بشكل أفضل، اعتقاد قد لا تجد ما يبرره. للوصول إلى هذه الغاية، يتبنى الثائر خطاً دينياً أو غير ديني يُشترط أن يكون مخالفاً لأيديولوجيا النظام الذي يسعى لإسقاطه، إذ لا يصح عقلاً أن يثور ثائر على من هم مثله، ما لم يكن هناك خلاف في فهم وتفسير تلك الأيديولوجيا، كاختلاف ليون تروتسكي مع جوزيف ستالين في فهم الماركسية وتصدير الثورة.

الثورة فكر نخبوي من وجه ما، لكن الثوري بحاجة ماسة للجماهير لتعميم مشروعه على أكبر مساحة ممكنة وإلى أكبر عدد ممكن من تلك الجماهير. كيف يمكنهم الوصول إلى هذا الهدف؟ الجواب: من خلال التعبئة السياسية.

تلك العملية التي يتم فيها شحذ واستفزاز طاقات المجتمع من خلال استخدام كل الوسائل الثورية المتطورة. من هذه الوسائل: الإعلام. الإعلام الثوري لا يستريح لحظة ولا ينفك عن محاولة إثارة الجماهير سواء أكان هذا بالأخبار الصادقة أو بالأخبار الكاذبة، إن لزم الأمر.

عندما تغادر هذا الموقع وتترك زاوية النظر هذه وتنتقل إلى المواطن نفسه، أعني ذلك الإنسان البسيط الذي لا يحمل أية أيديولوجيات سياسية، ولا يعرف الفرق بين الرأسمالية والشيوعية، فإنك ستجد أن أقصى أحلامه أن يُشبع احتياجاته الأساسية ثم الكمالية، وأن يعيش في سلام. هذا هو ما يريده معظم المسلمين والمسيحيين واليهود والبوذيين والهندوس. إنها الخطة الاستراتيجية القصوى لعموم الناس على هذا الكوكب. مع هذا، دعونا نحصر أنفسنا بالإنسان العربي الذي يهمنا أكثر لأننا نراه فريسة سهلة للخطاب الثوري ذي الطموحات الكبيرة. إن هذا الخطاب ينقضّ عليه انقاض السبع، فينتشله من حياته الطبيعية كما يعرفها، ومن علاقته الطبيعة بالنظام الحاكم كما يعرفها، ليملأ نفسه بالأحقاد وقبيح الظنون وتوقع الأسوأ.

خذ على سبيل المثال، أي مواطن عربي يجلس في كل وقت فراغه أمام قناة الجزيرة، وتحدّثْ معه. لن تجد في حديثه سوى السوداوية والغضب والألم والحزن والرغبة في الانتقام. أعرف أناساً أصابهم مرض ارتفاع ضغط الدم بسبب إدمانهم على قناة الجزيرة. نحن أمام خطاب فتاك، فتك أولاً بهذا المواطن المسكين وجعل حياته مليئة بالمرض والمرارة والكآبة وتوقع الأسوأ.

ينبغي أن يعلم هذا المواطن أن من يبثون فيه هذا الغضب هم أناس اعتادوا المشي فوق الجماجم. الفرد في الإيديولوجيات الضخمة لا قيمة له: هكذا كان الحال في الفكر الهيغيلي، وهكذا كان الحال في الفكر الماركسي، ولا زال هو الحال في أدبيات الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين). يخاطبونه باسم الأخوة ثم يملؤونه غضباً ثم يُرسلونه ككاسحة ألغام ثم يكفنونه ويصلون عليه. بعدها يبدؤون على الفور في البحث عن جيش جديد.

من أعظم أسباب السعادة أن يفر الإنسان بجلده بعيداً عن تلك الأيديولوجيات المتقاتلة كلها، بحثاً عن وجوده الخاص وصناعة له، بحثاً عن سلامه الداخلي. هذا الوجود الخاص يحتاج مشواراً طويلاً يبدأ من التخفف من متابعة القنوات الإخبارية. هناك سؤال فلسفي يتعلق بالقنوات الإخبارية يحتاج وقفة تفكير طويلة، ألا وهو: لماذا لا تنقل القنوات الإخبارية في كل أنحاء العالم وبكل لغاته إلا الأخبار الكارثية والحزينة؟ لماذا لا تكتفي بنقل الأخبار السعيدة؟ على كل حال، الأخبار مثل الملح في الطعام، دقيقتان في اليوم تكفي للاطلاع على أهم أحداث العالم، أما من يأكل الملح طوال نهاره وليله، فأخشى عليه من التلف.