الرئيس الفلسطيني محمود عباس.(أرشيف)
الرئيس الفلسطيني محمود عباس.(أرشيف)
الأحد 6 مايو 2018 / 19:35

في مسألة العداء للسامية

يُصوّر الصراع في فلسطين وعليها، في الدعايتين الصهيونية والإسرائيلية، بوصفه تعبيراً عن العداء للسامية، كما يُوصف العالم العربي، هذه الأيام، بوصفه الأرض الخصبة الجديدة للعداء للسامية

 أثارت تصريحات بشأن اليهود والمحرقة وردت في خطاب الرئيس الفلسطيني، في الجلسة الافتتاحية للمجلس الوطني في رام الله، ردود فعل غاضبة في إسرائيل، وأوروبا، والولايات المتحدة، ووصل الأمر حتى إلى مجلس الأمن، في محاولة فاشلة من جانب الأمريكيين لإدانة التصريحات المذكورة بوصفها نوعاً من العداء للسامية، ووجد الرئيس نفسه مضطراً للاعتذار علانية عمّا جاء على لسانه من عبارات فُسّرت بطريقة مُغرضة.

ولعل في هذا كله ما يبرر إلقاء ضوء ما على مسألة العداء للسامية (وقد دخل هذا التعبير، وهو غربي المنشأ والدلالة، إلى اللغة العربية في العقود الأخيرة، ولم تستقر دلالته الثقافية والسياسية، في العالم العربي، بعد). يمكن تبسيط تعبير العداء للسامية بالقول إنه يعني كراهية اليهود. تغطي هذه الكراهية، في نظر البعض، قرابة ألفين من السنوات، وتعود في نظر البعض الآخر إلى صعود القوميات، وتشكّل الدولة القومية الحديثة، بداية من القرن الثامن عشر.

وإذا شئنا رسم ملامح عامة للتجليات المُحتملة لهذه الكراهية يمكن القول إنها كينونة مُثلّثة الأضلاع: ضلع أوّل يُستمد من تصوّرات وتأويلات دينية، وضلع ثانٍ يتكون من تصوّرات وتأويلات قومية، عرقية في الغالب، وضلع ثالث سياسي في الجوهر. وعلى الرغم من حقيقة أن المصادر مختلفة إلا أن الأضلاع الثلاثة تتفاعل، وتتداخل، ويتقدّم فيها ضلع على آخر، أو يتراجع، في ظروف مُتغيّرة.

يحيل الضلع الأوّل إلى موقف الكنسية الإشكالي من اليهود منذ تحوّل المسيحية إلى ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية. ويتجلى الضلع الثاني في ظاهرة القوميات الأوروبية الرومانسية، التي افترضت أن للأمة جوهراً عرقياً ولغوياً وثقافياً ثابتاً على مر العصور، وأن اليهود يشكّلون جسماً غريباً يهدد نقاء الأمة، ويسعى إلى تخريبها من الداخل. أما الضلع الثالث فيعني تحميل اليهود مسؤولية بث الفوضى، وزعزعة الاستقرار.

في روسيا القيصرية، مثلاً، شارك الراديكاليون اليهود بنسبة كبيرة في المنظمات المعادية للقيصر، فدبّرت مخابراته خرافة "بروتوكولات حكماء صهيون"، لإدانة تلك المنظمات، واتهامها بالتآمر على روح الأمة الروسية وهويتها القومية. والمفارقة أن "البروتوكولات" وصلت إلى العالم العربي، بعد الحرب العالمية الأولى، عن طريق ضبّاط الجيش البريطاني، ومكتب المستعمرات.

وما تجدر ملاحظته، في هذا الشأن، أن ثمة مكتبة تضم آلاف الكتب، بلغات مختلفة، على مدار قرنين من الزمان، حول هذا الموضوع، وأن هذه المكتبة لا تتوقف عن إنتاج المزيد. ففي كل عام تُنشر عشرات الدراسات، في علوم مختلفة، ولغات مختلفة، حول هذا الموضوع. والواقع أن أسئلة من نوع لماذا اليهود، بالذات، ما تزال في صلب كل محاولة لتحليل ظاهرة العداء للسامية، وثمة مروحة واسعة من المرافعات، والاجتهادات، في هذا الشأن.

وإذا كانت ظاهرة العداء للسامية قد سبقت الصهيونية، والدولة الإسرائيلية، كما سبقت الهولوكوست، في الحرب العالمية الثانية، فقد أصبحت بعدها وثيقة الصلة بهذه الأشياء كلها. لذا، يستحيل تناول موضوع العداء للسامية، في عالم اليوم، وتجاهل الصهيونية كأيديولوجيا للدولة الإسرائيلية، أو تجاهل الهولوكوست بوصفه حدثاً تاريخياً وقع في زمان ومكان محددين، وألقى بظلاله على كل معالجة محتملة للموضوع.

وبقدر ما تبدو استحالة الفصل بين هذه الأشياء واضحة للعيان، إلا أن حضورها مجتمعة، خاصة في ظل الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي، يقلل من فرص المعالجة الموضوعية، وغالباً ما يرفع من شأن المماحكات السياسية على حساب الحقيقة التاريخية. فليس في كل تاريخ صعود الحركة القومية، ونشوء الدولة الحديثة في العالم العربي، كما في تاريخ الممالك والإمبراطوريات العربية والإسلامية السابقة، ما يحيل إلى عداء لليهود على أسس عرقية، أو حتى دينية على طريقة الكنيسة الغربية ما قبل الإصلاح الديني.

يُصوّر الصراع في فلسطين وعليها، في الدعايتين الصهيونية والإسرائيلية، بوصفه تعبيراً عن العداء للسامية، كما يُوصف العالم العربي، هذه الأيام، بوصفه الأرض الخصبة الجديدة للعداء للسامية. وفي الحالتين ثمة مغالطات كثيرة. فالعداء قومي، وجوهره الأرض، لا العرق، ولا الثقافة. وفي السياق نفسه، خاصة في العقود الأخيرة، أصبح انتقاد إسرائيل كدولة، والصهيونية كأيديولوجيا، نوعاً من العداء للسامية في نظر الإسرائيليين وأوساط مختلفة في الغرب. وهذا التحوّل جديد تماماً.

فالجمعية العامة للأمم المتحدة اعتمدت في العام 1975 قراراً يدين الصهيونية بوصفها شكلاً من أشكال العنصرية وبعد 16 عاماً، أي في العام 1991 تراجعت الأمم المتحدة عن القرار المذكور. وقد اشترطت إسرائيل قبول المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام بالتراجع عن القرار المذكور. والفرق بين ما حدث في أواسط السبعينيات، وما يحدث الآن، يدل في جانب منه إلى أي حد تغيّر العالم.

وهذا التغيّر لا يخدم، بالضرورة، الحقيقة التاريخية، ولا يعزز ثقافة التسامح، وقبول الآخر، بقدر ما يجعل من تهمة العداء للسامية هراوة غليظة في يد الإسرائيليين. فالعداء للسامية شيء، وانتقاد إسرائيل كدولة، والصهيونية كأيديولوجيا، شيء آخر تماماً.