تعبيرية.(أرشيف)
تعبيرية.(أرشيف)
الجمعة 11 مايو 2018 / 20:12

نكذب لك لا عليك

مع وجود هذا الكم الهائل من الخزعبلات في التراث الإنساني، علينا قبل التهكم على تراث غيرنا أن ننظر إلى تراثنا بنفس تلك العين الضاحكة والمتهكمة

 عرف أن والده عاش يتيماً ومُعدماً طوال حياته ليختاره القدر في سن الأربعين ليفارق هذه الدنيا بسبب مضاعفات سرطان القولون. أراد الابن أن يُكرم ذكرى والده فتوجه إلى دراسة الطب واختار تخصص الجهاز الهضمي حتى يُكرس ما تبقى من حياته لمكافحة سرطان القولون في المجتمع. لاحقاً اكتشف الابن السر الذي أخفته عنه والدته كل تلك السنين، فوالده مجرد شخصية وهمية اخترعتها لكي تبرر عدم وجوده في حياته، وذلك بعدما أضافت إلى صورته الكثير من الماكياج والرتوش حتى يبدو بطلاً في مخيلة ابنه.

عندما رأيت هذا المشهد في أحد الأفلام، طرقت ذهني تلك الأساطير التي تسبح في مخيلاتنا وعقولنا، وصدقناها فقط لأنها مكتوبة في كتبنا أو بسبب أنه تم إخبارنا بها عندما كنّا صغاراً من قبل أشخاص نكن لهم الاحترام، لكن إذا رأينا نفس تلك الخزعبلات في تراث غيرنا قلنا الحمدلله على نعمة العقل.

عندما أحكم المسلمون حصارهم لأنطاكية، أوشك الصليبيون على الانهيار وشارفوا على الهلاك، فقام أحد الرهبان بإعلان وجود الحَربة -التي طُعن بها المسيح وهو معلق على الصليب- في أحد أبنية المدينة، وقال لهم إنهم إن وجدوها فسوف يحالفهم النصر المؤكد، وبعد فترة صيام وصلوات استمرت ثلاثة أيام، وجد الجنود الحربة في المكان الذي وصفه الراهب، ولم يفكر أحد منهم ولو للحظة أن تكون تلك حيلة مدبرة منه، وأطلق ذلك فيهم روح الحماس الديني مما جعل النصر حليفهم على أعدائهم.

في نفس الحقبة الزمنية، اشتعلت جيوب المقاومة والدعوة إلى الجهاد من قبل القيادة الفاطمية من مدينة عسقلان الشامية، المدينة التي أُعلن وجود رفات الحسين بن علي فيها، وهو المقتول في كربلاء العراق، مما جعل جنودها يستبسلون في الدفاع عن الرفات في المدينة.

يذكر علماء الحديث قصة القاضي نوح بن أبي مريم، مُختلق أحاديث فضائل سور القرآن، الذي لما اتُهم بالكذب على النبي ص، كان رده أنه اختلق هذه الأحاديث عندما رأى إعراض الناس عن القرآن وانشغالهم بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن اسحاق، فهي كذبة مبررة تسللت وهي متخفية بثياب الفضائل إلى كتب التفسير، وقامت فرقة تُدعى الكرامية باختلاق الأحاديث تحت شعار (نحن نكذب للنبي) مستدلين بحديث (من كذب علي متعمداً ليضل به الناس فليتبوأ مقعده من النار)، وهم كانوا يعتبرون أكاذيبهم من أجل هداية الناس! فالله أعلم بكمية الكذب الذي لم يتم اكتشافه في كتب السنة النبوية.

مع وجود هذا الكم الهائل من الخزعبلات في التراث الإنساني، علينا قبل التهكم على تراث غيرنا أن ننظر إلى تراثنا بنفس تلك العين الضاحكة والمتهكمة، فقصة مكوث الملك "بهاثميرات" مئات السنين يدعو فيها آلهة الهندوس إلى الموافقة على جريان نهر "الغانج" لا تختلف كثيراً عن قصة "بطاقة" عمر بن الخطاب التي أرسلها لنهر النيل حتى يستمر في التدفق والجريان! فقوانين الفيزياء والجيولوجيا والكون هي واحدة في كل الأزمان والعصور، ولا تُفصل على مقياس حضارة دون غيرها، ولا يمكن اختراقها حتى لحظة فناء هذا العالم.