الملياردير الأمريكي شيلدون أدلسون.(أرشيف)
الملياردير الأمريكي شيلدون أدلسون.(أرشيف)
الأحد 20 مايو 2018 / 22:10

دماء في مكان وسعادة في مكان آخر

أدلسون من كبار داعمي وممولي الجمهوريين في الولايات المتحدة، وقد أنفق، على مدار سنوات، مئات الملايين من الدولارات في دعم مرشحي الحزب في الانتخابات

في الاحتفال بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، جلس في الصف الأمامي رجل على كرسي متحرّك، بين كبار المشاركين والمدعوين. ولم يثر وجوده تعليق أحد ما عدا إشارة عابرة في صحيفة إسرائيلية إلى حقيقة أن وزراء الحكومة الإسرائيلية جلسوا في الصف الثالث، بينما كان شيلدون أدلسون، الذي لا يحمل صفة رسمية، في الصف الأمامي الأوّل.

ولعل في هذه المفارقة ما يفسّر جانباً غير مُتداول في مسألة نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بالمدينة عاصمة لإسرائيل. فالأمريكي شيلدون أدلسون الذي ينحدر من عائلة يهودية، يُعتبر من أصحاب المليارات، لا الملايين، تزيد ثروته، حالياً، عن أربعين مليار دولار، ويحتل المرتبة 19 بين أغنى أغنياء العالم.
وإذا لم يكن في هذه الأرقام، على أهميتها، ما يفسّر مكانه المرموق في الصف الأوّل، في مناسبة رسمية، فإن في نشاطه السياسي في أمريكا وإسرائيل، ما يجعل من مكانة كهذه نتيجة منطقية، خاصة وأن بين كبار المشاركين في المناسبة الاحتفالية، مَنْ يدين لأدلسون بالكثير، ويرى في تكريمه تعبيراً عن العرفان بالجميل.

فالمذكور من كبار داعمي وممولي الجمهوريين في الولايات المتحدة، وقد أنفق، على مدار سنوات، مئات الملايين من الدولارات في دعم مرشحي الحزب في الانتخابات، كما كان حريصاً على الاجتماع بالمرشحين أنفسهم، لتكوين انطباعات شخصية وسياسية عنهم، قبل وقوع الخيار على تبني ودعم هذا المرشح أو ذاك.

وربما لن تتضح أهمية هذا الأمر، بصورة كافية، ما لم نضع في الاعتبار حقيقة "استيلاء" كبار الممولين على الحزب الجمهوري، في العقود الأخيرة، ونجاحهم في نقل أيديولوجيا يمنية متطرّفة كانت دائماً على الهامش إلى أيديولوجيا سائدة في الهياكل القيادية للحزب، وقاعدته الانتخابية.

ويُعتبر كتاب جين ماير، الصادر في مطلع العام الماضي بعنوان: "مال أسود: التاريخ السري لأصحاب المليارات وراء صعود اليمين الراديكالي" وثيقة هامة في هذا الصدد. فقد أنشأ هؤلاء، أي أصحاب المليارات، منذ ستينيات القرن الماضي، ما لا يحصى من مراكز الأبحاث، ومنابر الإعلام، في سياق مشروع طويل الأمد للتأثير على الرأي العام، و"استعادة" أمريكا من الليبراليين، وتقليص صلاحيات الحكومة الفيدرالية، في فرض الضرائب والقيود البيئية، ناهيك عن المطالبة بإلغاء البرامج الاقتصادية والاجتماعية لتحقيق المساواة، خاصة ما يتعلّق منها بتمكين الأمريكيين من أصول أفريقية وأمريكية لاتينية.

لوّح هؤلاء، في زمن الحرب الباردة، بخطر الشيوعية، والنزعات الاشتراكية، التي تسللت إلى الجامعات، والنخب الثقافية والفنية، وبيروقراطية الحكومة الفيدرالية، وهم يلوّحون في الوقت الحاضر بخطر الليبرالية، الممثلة في منابر إعلام التيار الأمريكي الرئيس، وفي نخب واشنطن السياسية، كما يُلوّحون بخطر المسلمين، والمهاجرين، والعولمة، وقد وجدوا في اليمين الديني، الذي يتزعمه الإنجيليون، ودعاة القومية البيضاء، حلفاء طبيعيين.

في كل ما تقدّم ما يُفسّر طبيعة ومعنى نفوذ أدلسون، وأمثاله من كبار الممولين، في أوساط الجمهوريين. ولعل فيه، أيضاً، ما يُمهد لتفسير علاقته بنتانياهو وإسرائيل، التي تُعيدها بعض المصادر إلى العام 1990 بعد زواج المذكور بطبيبة إسرائيلية، ويبدو أنها بدأت قوية تماماً، فقد تمكّن أدلسون، بمساعدة نتانياهو، في ذلك العام، من الاحتفال بزواجه في مبنى الكنيست الإسرائيلي.

والواقع أننا يمكن أن نفهم طبيعة ومعنى العلاقة المحتملة بين نتانياهو وأدلسون بالعودة إلى كتاب صدر في مطلع مايو (أيار) الحالي بعنوان "بيبي: حياة وأوقات بنيامين نتانياهو المضطربة" لأنشل فيفر، الصحافي في جريدة هآرتس الإسرائيلية. وما يعنينا من هذا الكتاب، في سياق كهذا، تركيز فيفر على حقيقة أن نتانياهو رجل علاقات عامة، وإعلام، في المقام الأوّل، وقد صعد نجمه السياسي في إسرائيل، وقت الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982، عندما كان نائباً لرئيس البعثة الإسرائيلية في واشنطن، ونجح في احتلال شاشات التلفزيون، ومنابر الإعلام الأميركية، في ذلك الوقت.

عاد نتانياهو إلى إسرائيل، بعدها، لاقتحام المشهد السياسي مزوّداً بخبراته الدعائية وعلاقات وطيدة مع منابر إعلامية كثيرة، وكذلك مع الجناح اليميني في الحزب الجمهوري، ويمين اليهود الأمريكيين. وقد وظّف هذا كله في تعزيز صعود اليمين في إسرائيل، على الطريقة الأمريكية، بإنشاء منابر إعلامية، ومراكز أبحاث، لنقل أيديولوجيا متطرفة كانت في ظل هيمنة العماليين، حتى العام 1977، على الهامش، إلى متن الخطاب السياسي السائد.

وبهذا المعنى، تبدو العلاقة بين نتانياهو وأدلسون منطقية تماماً. وقد أسهم الأخير، بين مشاريع كثيرة، في "ثورة" نتانياهو اليمينية، بإنشاء ودعم جريدة "إسرائيل اليوم" في العام 2007، التي تُوزّع ربع مليون نسخة مجاناً، وتعتمد في تحريرها على نخبة من الكتّاب والصحافيين البارزين. وهي الثانية من حيث الانتشار في إسرائيل، بعد "يديعوت أحرونوت"، وينفق عليها أدلسون قرابة 25 وعشرين مليون دولار في العام.

وبهذا المعنى، أيضاً، وبينما الرصاص على الحد الفاصل بين غزة وإسرائيل يحصد أرواح الفلسطينيين، كان حفل السفارة إشهاراً لنجاح مشروعين أيديولوجيين، ولم يكن من قبيل المُصادفة أن تسيل دماء في مكان، وأن تبرق ابتسامات السعادة في مكان آخر.