رسم لابن خلدون.(أرشيف)
رسم لابن خلدون.(أرشيف)
الأربعاء 23 مايو 2018 / 22:05

المقدمة

أصالة ابن خلدون أولاً في أنه أول مَنْ عرض في كتاب واضح، أحوال الاجتماع البشري في الدولة، ولاحظ ما يطرأ عليه من عوارض ذاتية

 "مقدمة" ابن خلدون (1332- 1406)، من الأعمال الكبرى للفكر الإنساني على مر العصور، وهي وضعتْ الأسس الأولى لعلم جديد، هو علم العمران، الذي هو مزيج من علم السياسة، وفلسفة التاريخ، وعلم الاجتماع بالمعنى الحديث. ونقول مزيج لأننا لا نستطيع أن ندرجها تحت علم واحد فقط من هذه العلوم الثلاثة. لكن من جانب آخر لم تكن تلك العلوم الثلاثة قد أخذتْ منذ أكثر من خمسة قرون، تحديدات علمية واضحة المعالم، بل قد يرجع فضل تحديدات تلك العلوم في وقت لاحق، لأعمال مثل "مقدمة" ابن خلدون.

من المعاني العظيمة في "المقدمة"، فكرة "العصبية"، وهل هي فكرة سياسية أو ظاهرة اجتماعية؟ وآراؤه في الكسب والمعاش، هل هي آراء اجتماعية أو بالأحرى اقتصادية؟ كل هذه الأسئلة لا بد ألا تشغل ذهن القارئ، وهو يقرأ "المقدمة"، وحين يحاول أن يردها للعلم الذي تنتسب إليه، يكون بذلك كمَنْ ينفي تاريخ تطور العلوم، ففي مستشفيات أوروبا من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر، كما وصفها ميشيل فوكو في كتابه "تاريخ الجنون"، كانت أمراض الجذام والأمراض العقلية والنفسية والتناسلية، تُعامَل في الحجز الصحي، مُعامَلَة طبية غائمة، غايتها إخفاء المرضى، بشكل أخلاقي، شبه ديني عن المجتمع، وكأنّ المريض به مس شيطاني.

أصالة ابن خلدون أولاً في أنه أول مَنْ عرض في كتاب واضح، أحوال الاجتماع البشري في الدولة، ولاحظ ما يطرأ عليه من عوارض ذاتية. وانتهى إلى أن المجتمع الإنساني مُمثلاً في الدولة، هو كائن عضوي حي، يُولد ثم ينمو، ثم ينضج، ثم يستهلك نفسه، ثم يموت. وحدد لهذا الكائن العضوي عمراً، هو في نظره أربعة أجيال، والجيل عنده أربعون عاماً. وربط بين هذا الكائن، والظروف المحيطة، جغرافية، وإقليمية. ولهذا بدأ بأن قسَّم العالَم إلى أقاليم، ووصف الطبائع التي يستلزمها مناخ كل إقليم، وما يستتبع ذلك من آثار في نفوس وأجسام ساكنيه. كانت مُحَاوَلَة ابن خلدون فائقة الذكاء في الربط بين الكائن والبيئة على غرار ما نعرفه اليوم في علم السكَّان والجغرافيا البشرية. اعتمد ابن خلدون أيضاً على بطليموس والجغرافيين العرب، وعلى رأسهم الإدريسي والمسعودي.

شدد الكثيرون على أن أصالة ابن خلدون كانت واضحة في شروحه عن الدول وأحوال تطورها ونظام الحُكم فيها، وأنواعه، وكيف يسري إليها الانحلال. عرف ابن خلدون ما كتبه أرسطو في "السياسة"، وأفلاطون في "الجمهورية"، لأنه قرأ مؤلفات ابن رشد وتلخيصاته لكتب أرسطو، ومن بينها كتاب "السياسة" وكتاب "الجمهورية". ولم يأخذ ابن خلدون عن كتاب "السياسة" لأرسطو، لأنه كان يهتم بأحوال الدول فيما هو واقع، وليس فيما يتوجَّب على الحاكم أن يفعله كما في كتاب "السياسة" لأرسطو، أو في كتاب "الأمير" لمكيافيللي. ما تمتاز به "المقدمة"، لابن خلدون، هو بحث حال الدولة كما هي في واقع التاريخ، ولهذا كان بحثه أقرب للعلم الوضعي بالمعنى الحديث للكلمة.

درس ابن خلدون فكرة "العصبية"، وهي أقرب إلى معنى الجماعة القومية التي تربطها صلة الدم، وبه تستقوي، وتتعصب لنسبها في حكم الدولة. أمّا فكرته عن عمر الحضارة، فلم يُفرِّق ابن خلدون بين العمران البدوي والعمران الحضري، من حيث النمو والنضج والشيخوخة في النهاية، لأنه وضع نظرته للعمران عموماً في مخروط الزمن، وهذا يُقرِّبه إلى الفلسفة أكثر من علم الاجتماع. ومن كلماته "العمران كله من بداوة وحضارة ومُلك وسوقة، له عمر محسوس، كما أن للشخص الواحد عمراً محسوساً. وتبين في المعقول والمنقول، أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموها، وأنه إذا بلغ الأربعين، وقفت طبيعته عن النمو برهة، ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط"

جاء ابن خلدون إلى القاهرة، وقام بالتدريس مؤقتاً في الجامع الأزهر، ثم اتصل بالسلطان الظاهر برقوق (1339- 1399)، فأبرّ لقاءه، وانتظر ابن خلدون لحاق أهله وولده به من تونس، وقد صدهم السلطان أبو العباس عن السفر طمعاً في عودة ابن خلدون إلى تونس، فطلب ابن خلدون من السلطان الظاهر برقوق الشفاعة في تخلية سبيل أهله، فكتب برقوق إلى أبي العباس في ذلك. في هذا الوقت توفى بعض المدرسين بمدرسة القمحية التي كانت تقع بجوار جامع عمرو بن العاص، وكانت من وقف صلاح الدين الأيوبي، فولاه السلطان برقوق التدريس بها.