شاب يرفع العلم الفلسطيني.(أرشيف)
شاب يرفع العلم الفلسطيني.(أرشيف)
الجمعة 8 يونيو 2018 / 22:06

سن اليأس الفلسطيني

بحكم الحاجة وقسوة الواقع وكثرة النزف والدم، قبل الفلسطينيون بصيغة سياسية تبدو وفق كل المقاييس دون الحد الأدنى الذي يستحق القبول وبعد فترة وجيزة انقلبت الأمور إلى عكسها

وصل الفلسطينيون إلى ما يسمى في حالة الآدميين بسن اليأس، وأحياناً يكون هذا السن والشعور الجمعي الذي يولده حالة إيجابية، إذا ما دفعت أولاً إلى الاعتراف بانتهاء فاعلية ما تكرّس في الماضي، وإذا ما تمت تهيئة تربة يمكن أن تنبت جديداً يحقق ما لم تحققه الصيغ السابقة من قبل.

حين تدرس المسيرة الفلسطينية منذ بداية النكبة في الثلث الأول من القرن قبل الماضي وحتى أيامنا هذه، فالنتيجة الأولية التي لا نقاش فيها، هي أنها من أطول وأغنى وأعقد مسيرات الشعوب في هذا العصر.

قوى عظمى أسست دولة إسرائيل وداست العرق الفلسطيني الأخضر وسحقته على نحو لا تقوم له قائمة، ودون الإسهاب في وقائع أحداث استغرقت أاقل من قرن بقليل، فإن الخلاصة المحسومة التي أنتجتها هذه الحقبة الطويلة هي أن الفلسطينيين نهضوا وصمدوا وبلوروا هويتهم الوطنية والسياسية واستطاعوا مع أشقائهم وحلفائهم إبقاء القضية الفلسطينية قيد التداول وفي مرحلة ما كانت الأولى من بين قضايا الكون.

وفي أيامنا هذه يواصل الفلسطينيون محاولاتهم الصعبة لإدامة قضيتهم على قيد الحياة، وبصورة موضوعية فإنهم ينجحون في ذلك، فلا مجال منطقياً لإلغاء قضية من الوجود ما دام معتنقوها والمتضررون من عدم حلها يعيشون بكثافة شديدة على أرض النزع وعبر انتشار واسع وحيوي على العالم بأسره.

أين اليأس إذاً ؟؟

إنه يطالعنا في نهايات الطرق المسدودة التي فرضت نفسها على كل المسارات الفلسطينية.

أولاً، إن أبسط بديهيات وشروط تقدم أي حركة سياسية أو ثورية هو رسوخ ركائز الوحدة الوطنية، وهذا أمر ضحت به الحالة الفلسطينية حين سمحت باستمرار الانقسام عقداً من الزمن دون ظهور أفق عملي لإنهاء هذه المأساة.

ثانياً، وبحكم الحاجة وقسوة الواقع وكثرة النزف والدم، قبل الفلسطينيون بصيغة سياسية تبدو وفق كل المقاييس دون الحد الأدنى الذي يستحق القبول وبعد فترة وجيزة انقلبت الأمور إلى عكسها وبدل أن يؤدي التنازل التاريخي إلى حل أدنى تاريخياً أيضاً، تحول إلى كابوس لا يثبت مأساة الحاضر فحسب بل يلقي بظله الأسود على المستقبل.

ثالثاً: قامت المعادلة الفلسطينية على فكرة التزام عربي جعل القضية الفلسطينية الأولى والمركزية في أجندات أمة كبيرة، ومع بقاء هذا المصطلح قائماً ويستخدم في المؤتمرات والمهرجانات وكل المناسبات، إلا أنه ليس كذلك في الواقع، فلكل دولة عربية أولوية منطقية تستقطب كل الجهد لمعالجتها ما حول القضية المركزية إلى مجرد شعار فولكلوري لا مجال لا لتحقيقه ولا حتى لخدمته.

رابعاً: طرق الفلسطينيون بإلحاح وإصرار أبواب المؤسسات الدولية، ووصلوا في الإنجاز على هذا الصعيد حد الاشباع بل والفائض، ليكتشفوا أن مفاتيح الفاعلية لهذه المؤسسات موجود في يد من يملك قدرة ماحقة على إلغائها وتحويلها إلى مجرد كلام يتطاير في الهواء.

وحول هذه القوة الغاشمة الماحقة تدور قوىً متفاوتة في الموقف الإيجابي من القضية الفلسطينية، إلا أنها جميعاً خارج دائرة الفعل والتأثير.

هذه هي مكونات سن اليأس، وهنا وأنا أتحدث بصورة موضوعية وليس لمجرد تخفيف المأساة، فإن الحالة الراهنة لا تعني نهاية كل شيء كما لا يعني اليأس أن كل ما تم في الماضي لم يكن ذا قيمة، إلا أنه يصبح كذلك لو ظل هو وحده كل ما يملك الفلسطينيون، كل رهان وجهد بذل على مدى عمر القضية الفلسطينية الطويل حقق شيئاً مهماً، وسنة الحياة تقول، إن كل مرحلة مهما طالت تستنفذ مهماتها وغاياتها لا بد وأن تبدأ بمرحلة جديدة تنسجم بل وتتفاعل بإيجابية مع كل الجديد الذي فرض نفسه سلبياً كان أم إيجابياً، وهنا لابد من الإقرار بعدم جاهزية الصيغ القديمة على مواصلة الحياة والتأثير.

الأهداف يجب أن تبقى والآليات يجب أن تتغير، والمخيف في ما تفعل الطبقة السياسية الفلسطينية، أنها برعت في إهدار الفرص القوية للتجدد والتطور. أهدرت فرصة بناء نظام سياسي جديد كان هو الإيجابية الوحيدة لحكاية أوسلو وأهدرت فرصة الاستفادة من منظمة التحرير ككيان كان عملاقاً لتصغره إلى أدنى مستوى وتدسه في جيب السلطة الضيق، ثم أهدرت فرصة أدت إلى نتائج كارثية وهي تحقق إجماع العالم في يوم ما على احقية الفلسطينيين في دولة فضرب هذا الإجماع بأيدٍ فلسطينية حين وقف العالم وما يزال أمام كيانين فلسطينيين متنابذين متناقضين وهما في حضن مأساة واحدة.

كل ذلك لو حدث مثله لأي طبقة سياسية لكان دافعاً قوياً لنوع فريد من الجرأة وأعني به جرأة كسر قيود القديم لمصلحة الانطلاق وبلا تحفظات إلى الجديد.

كتبت بهذه الروح بعد أن رأيت بأم عيني مناسبتين عميقتي الدلالات، الأول مؤتمر فتح والثاني المجلس الوطني الأخير حيث اتحد الاثنان على تخليد القديم وإدارة الظهر لأي جديد.