الخميس 12 يوليو 2018 / 18:42

علي أبو الريش لـ 24: عن الحب والصحراء وتهميش المثقف

24 - الشيماء خالد

يسرد شيخ الروائيين الإماراتيين، علي أبو الريش، أحد كبار كتاب العالم العربي، والذي تعتبر روايته "الاعتراف" واحدة من أفضل 100 رواية عربية، في حديث خاص مع 24 عوالم الصحراء التي برع في سبرها، ومرآة النفس التي درسها ودخل ثناياها اللامتناهية في روايات عدة أثارت إعجاباً واسعاً، مثل "نافذة الجنون" و "زينة الملكة" و"الغرفة 357"، وغيرها الكثير، متنقلاً بين أزمات المنطقة العربية وأجيالها، ومنادياً بالحب والحرية والتناغم مع "القماشة الكونية" على حد تعبيره.

وفي الحوار التالي يحدثنا أبو الريش عن كل ما سبق وأكثر من نوافذ رواياته ورؤاه:

زايد .. الفضاء
- روايتك الأخيرة ظبية الجواء، ما الرسائل الظاهرة والمعاني في بطن الكاتب بشأنها؟ حيث البعض رأى أنها تحكي فترة تاريخية معينة في الإمارات.

"الرواية تخبئ بين سطورها رمزية الصحراء في الأصل، بمعنى أن هذه الأخيرة التي يتحدث عنها الناس عادة كأرض شاحبة قاحلة بلا زرع أو ضرع أنا بالنسبة لي العكس، الصحراء هي فضاء واسع وكائن حي، الصحراء تعطيك من الجمل الخيالية بحيث لا تحتكر فيك الذات، على عكس ما هو في المدينة المزدحمة بالأبنية الاسمنتية حتى في الحدائق في المن، تشعر بأنك محاصر، كأن كياناً آخر يزاحمك ويتدخل في توجيه نظرك، لكن جمال الصحراء أنها تأتيك عارية كما هي، لا رواسب ولا أفكار مسبقة، هي كما هي على فطرتها، على ضوء ذلك استطاع قائد مثل الشيخ زايد أن يستمتع بهذا الفضاء وأن يتصور ويضع تجلياته الشخصية ويسكبها على هذه الصحراء بحيث توافق ما تخيله لا كما ظن بها الآخرين، ولذلك وجدت في (ظبية الجواء)، مساحة مناسبة لي للتحرك دون محسنات بديعية أو رتوش أنت كما أنت مع الصحراء وهذا ما أحبه في هذا المكان.. الآخرون ربما اعتقدوا أني أكتب عن مرحلة معينة، وهذا رغم أنه موجود ولكن أجمل ما في الصحراء أنها كائن بكر، ورغم أنك تنفر منه كونه خالٍ أحياناً، إلا أنه يحبك، ويحتويك في الواقع سحره يجذبك ويأخذك قائلاً أنا هنا لماذا تذهب بعيداً؟!".

"كما أنت"
ويضيف: "أحياناً مشكلة الإنسان هي حينما يهذب للصحراء أفكار مسبقة، وهذه الأفكار في كل شيء هي مفسدة للعقل، أنا رأيي في الصحراء أنها كائن، والعقل يجب أن يملك الحب، الذي حين يسكنك يجعلك أقرب لوردة، تعطي بلا شروط، لا تميز بين رجل وامرأة طفل أو كبير أسود أو أبيض، أقصد لا تميز بطريقة عنصرية ظالمة غير منطقية، وبالعودة للصحراء في أدبي، هي وجدت لأجل العطاء، هكذا أراها".

- تجسيدك الرواية في القالب السينمائي حيث الصحراء موضوعاً، يجد فيه الكثيرين صعوبة، حيث تعجز الصورة فيه تحديداً على نقل النص المكتوب ومعانيه إلى حد كبير، كيف ترى ذلك؟.

"هذا يعتمد على نجاح صاحب الصورة، وإن ذهب إليها محملاً بالضجيج المدني لن يستطيع التعامل مع الصحراء، فأنت حين تحاور طفلاً وأنت الرجل الكبير، عليك استحضار روح الطفل فيك حتى تستطيع التواصل معه، أن تأتي من المدنية بمحسناتها البديعية حتى وجوه الناس في الصحراء تختلف عن تلك الأخيرة، فالإنسان الصحراوي يمكن له ارتداء أي ثو بأي لون، أو السير حافياً على الرمال، بينما في المدينة لو خالفت النسق قليلاً بحرية عفوية سينظر ل الناس شذراً وامتعاضاً، أما الصحراء فتريدك كما أنت، كما هي كائناتها الأخرى، لذا من يأتي الصحراء لتصوير عمل سينمائي متخيلاً أنها يفترض بها أن تكون كذا أو كذا، يفقد بذلك قدرته على التعامل مع هذا الكائن المنفتح بكل أشكاله".

المقارنة، الإدانة، التملك، التعلق
- هل أنت قلق من تراجع وجود هذه الصحراء مع زخف المدينة والعصرنة، خاصة في منطقة الخليج العربي؟

التعامل مع الصحراء كالتعامل مع طفل، أنت تود لو تغير وتكيف، لكن يجب أن يتم ذلك وفق إرادته لا إرادتك، لذا فالجبرية في تحويل الصحراء إلى مدينة نعتقد بأنها متطورة، أشبه بانتزاع الصحراء من فطرتها، وكأنك تقتلع طفلاً من عالم خياله الخاص، نحن نراه اليوم في أطفالنا حيث يستيقظ الواحد منهم مكفهر الوجه، على خلاف ما كنا عليه صغاراً ، حيث الطفولة في عصرنا هذا تقترن بوجود المقارنة، والإدانة، والتملك والتعلق، هذه الشروط الأربع التي نفرغها على الطفل وتعله في حالة صراه مريرة بينه وبين الآخرين، يجب أن تكون متفوق، في مجال بعينه، نريده أن يكون كما نريده، وهنا تأتي الإدانة، وهو بدوره يدينك، الأمر عينه الصحراء، أن تأتيها بسخط ورفض لها كما هي، وبرأي حتى وجود فكرة الدول خطأ، حري بنا التخلص من عقدة التملك والتعلق والانتماءات، حيث الكل يركض من أجل تملك حدود جغرافية سياسية وتضاريس، أن يملك أسلحة قوية، وقادرة على قهر الآخرين، والطفل، والمرأة والرجل، علاقاتنا الإنسانية التملك جبلها، وكذلك المقارنات، وهذه أمراض اجتماعية متجذرة تنتزع الإنسان من إنسانيته، فأن يريد البشر أن يكونوا على ما غير ما هم عليه، أن يريد الإنسان أن يكون غيره، هذه الغيريرة لمصيبة كبيرة، الصحراء تدعوك للاستسلام، لا للحيرة، تدعوك لتكون شفافاً متعايِشاً مع كل كائناتها حتى المتوحشة منها، تصيخ السمع لها، وتقبلها، أن تعبر تعاريجها وتعجبك رغم خطورتها أحياناً، أعتقد علينا أخذ التطور بأريحية دون فقد مكوناتنا الأساسية في حياض الصحراء".

"نافذة الجنون".. تورم "الأنا"
- روايتك "نافذة الجنون"، أثارت ضجة لامتلائها بأسئلة وهواجس وصراعات في دهاليز النفس التي أطلت منها بشكل جعل الكثيرين من القراء يشعرون بك تكتب عنهم، ومن نجاح الكاتب أن يشعر القارئ ذلك، ولكن هل الوعي يعلنا نفكر في الأسئلة الوجودية وحده؟ وهل الراحة في عدم التفكير؟ البعض يرى أن الخلاص من هذه المعارك العقلية بين الإنسان وذاته المهرب فيها خيار مريح.

"كثير ممن ناقشتهم في الكتاب أو عرضتهم عليه، قالوا خطر لنا هذا الأمر أو ذاك، وأنا في الخلاصة أريد القول كن مرناً يطل أمدك وكن صلباً تتكسر، الإنسان في حياته همه الأساس البحث عن الحقيقة وتعتقد أنها هناك، بينما هي هنا في الداخل، قال الحلاج (أنا الحقيقة)، وقالت رابعة العدوية (من كثر حبي لله لم يبق مكان في قلبي لكره الشيطان)، هنا انغماس في الوجود وعدم تمييز ولا تمزيق لهذه القماشة الكونية، لذا علينا البحث عن الحقيقة في الداخل، لكن بتوافر 3 شروط، الأول إخراج العقل من القل، تحرره من الرواسب والخرائط، العقل بطبيعته ذكي وداهية، لكنه كذلك مخاتل وماكر، هذا التطور التكنولوجي الهائل، والنجاحات البشرية في العلم والفن والأدب، سببها العقل، لكنه ذاته الذي قال لك أن تذهب لتقتل الآخر، وتحرق وتدمر، وابتكر رهيب الأساليب لتعذيب البشر، وهو من قال لك كرجل مثلاً هذه أنثى فسيطر أنت عليها ونل من حقوقها ووجودها، إلخ، ثاني الشروط هو التضامن مع الآخر، كوني في هذا الجسد يعني أني جزء من الوجود، كل ذرة في كل واحد منها جزء من الكون الأعلى، وبالتالي حتى أعش، في حالة سعادة حقيقية، يجب أن ننغمس مع هذا الكون، وكل ما فيه، بمعنى الآخر، وثالث الشروط، هو الحب، إذا أردت أن تذهب إلى الآخر فاذهب إليه مثل النهر بعذوبتك بعيداً عن كل الشوائب والأحزان التاريخية التي عشناها، أنا أتعجب من داعش والطائفية والحروب لأن سببها هو تورم هذا "الأنا"، أنا ومن بعدي الطوفان، يجب أن أكون أنا والآخر شبيه لي، أو هو عدوي، هذه دورها صناعة العقل البشري، نحن لم نخلق هكذا، نولد لا تضاريس وحدود وأديان، روسو كان يقول (لو أن الإنسان صدق ما في ضميره، لما احتاج لكل هذه الأديان)، اعتمد على أريكة القلب لا العقل، ستجد أنك تستطيع أن تحب الآخر بكل صوره، مثلما أنت لديك عقل، لديك قلب".

الحب قوة.. الأصنام الجديدة
- قلت في أحد مقالاتك أن الناس تخاف من الحب، هل هذا يرجع لأنانيتنا؟

الأنا المتضخمة تلك التي تعلك تنفر من الحب، لأن لدينا اعتقاد راسخ أننا حين نحب فإننا نستسلم للآخر، وحن نحب نعتقد أننا نضعف، ويستولي علينا الآخر، لكن برأيي الأمر عكس ذلك، يجب أن تقبل أن يستولي عليك الآخر، هذه هي القوة الحقيقية تداخل معه وانسجم، لتعش أنت قوياً وهو كذلك، فالنفور حلقة مفرغة، والإدانة التاريخية مثلاً، في السخط التاريخي الذي نعيشه، بسب إجحاف العقل، ونرى اليوم البيوت ناطحات سحب وأبنية ضخمة، لكن القلوب ضاقت واتسعت الأنا، وكل ما زكى ذلك، زيادة رغبتنا بالتملك والانعزالية كذلك، والحياة العصرية هذه أزمتها العظمى".

- كيف ترى تقديم الحب في النص الأدبي اليوم، حيث كثير من النقاد يرون طغيان السطحية والصبغة التجارية البحتة على الروايات مثلاً، حيث الحب سلعة مستهلكة وممجوجة وتقدم بشكل سخيف في النص أحياناً".

"أصبح الحب كأي شيء، جسدي مادي بلا روح، الإنسان لن يبدع هكذا، ففي الروح الفضاء الواسع، مهما طرت لا متناهي مداه، وهذه ميزته، وميزة قلب الإنسان رغم كل شيء، بينما العقل مهما وصل لاختراعات يبقى محصور في الماديات وهذا ينسحب على كل شيء في حياتنا وعلاقتنا، والنص الأدبي كذلك".

ويستطرد: "مثلاً المجتمع الإماراتي أصبحت علاقاته الإنسانية تتلاشى تدريجياً وتختفي تماماً، أطفال منعزلين بأجهزتهم، والأكبر كذلك، فكيف تولد علاقة حقيقية، لنا أصنام جديدة ويصبح الإنسان كائناً أجوف".

الملاحقات الأمنية.. الطيور التائهة

- هذا يحيلنا للسؤال حول الجيل الإماراتي الجديد في إبداعه الأدبي، حيث لوحظ أن للمراهقين إنجاز جميل لكن باللغة الإنجليزية، كما أن الغالبية منهم لا يشاركون إبداعهم هذا مجتمعهم، خاصة المجتمع الثقافي في الإمارات، بل حتى لا يقرأون لكتابنا العرب.

"هذا جزء من عقدة نقص، فهو يرى مجتمعه مختلف لا يتقبل أفكاره، وهو برأيه أصبح أعلى منه، أنت ترفض هنا سلطة الرقيب، لكن المحزن أن هؤلاء انطلقوا كالطيور التائهة بلا أعشاش، تدور في الفضاء بلا قدرة على الهبوط، وقد يتلف الغرب بعض النماذج الشابة في حالات كهذه لخلق ولاءات لأهادف سياسية، ، مثلما حدث في العراق وسوريا وغيرها، فمن سيحطمها أفضل من هم بداخلها، أبناؤها، هي في نهاية المطاف المسألة صراع أفكار في مجتمعاتنا العربية، وللأسف لازالت بعض الدول تعتقد أن الملاحقات الأمنية تحل الأزمة، لكنها برأيي لا تخلص من المشكلة حقاً بل تجذرها، فنحن بحاجة لترافقها فكرة ناصعة، أنت تريد من الشباب أن تترك داعش مثلاً، أعطهم البديل، كما أن الخوف المبالغ من حرية التعبير تحتا لنظرية جديدة بالكامل، حول ما الذي تريده فعلاً من هذه المجتمعات وشبابها".

الأبواق.. إعدام المثقف.. تسويق السفائف
- هل أنت متفائل بمستقبل الفكر العربي، وما الهاجس الحقيقي لديك؟

"هاجسي الأكبر هو تهميش المثقف وعزلته، فوطننا العربي لا يخلو من مثقفين أنقياء ولكن هؤلاء ألغيت أدوارهم، وما يطفو على الساحة هي الأفكار الهشة والسطحية والتي لا تخدم أغراض المجتمعات والأفراد، ونحن نتحدث عن استراتيجيات مستقبلية، علينا أن نفكر، كيف نستطيع أن نغير هذا السياج الحديدي المفروض، كيف نجعل أجيالنا أفضل، كيف نشكل مجتمعاً يواجه الزلات والمطبات، هذا لا يحدث إلا إذا اعتمدنا منظومة الثقافة، ولكن يجب أن يقودها أصحاب فكر حقيقي، نستطيع ذلك، لكن للأسف واقع الحال حين أنظر، لا أجد شيئاً بعد".

- لكن البعض يرى وخاصة كثير من المثقفين يرون أن هناك سيطرة لعناصر أقل شفافية أو لا تمت لها بصلة وتتجه لأفكار ربحية ومادية مبالغ فيها في التعامل مع الثقافة، والربح الغير مبني على خطط بعيدة المدى، وإقصاء للمثقفين الأنقياء، ما رأيك؟.

"هؤلاء هم فعلاً أبواق، يخدمون مصالحهم الشخصية قبل أن يفكروا في مجتمعاتهم للحظة، وسوقوا لأنفسهم للأسف الشديد مدعين الثقافة، وأصبحوا يقودون المشهد في كثير من الأحيان، والآخرين هناك في الركن صامتين، وهذا أمر زاد في عدة دول عربية، كممارسات قمع فكري وإعدام أدبي لمثقف أو مثقفة، فهناك خوف من المثقف الحقيقي، هم لا يريدونه أساساً، هذا معول قد يهدم المعبد عليهم يعتقدون، ومما نراه في المنطقة، هذه مرحلة انهيار وتسويق للسفائف بالأساس، بقي أن نتشبث بعض النماذج والبادرات المضيئة علها تضيء الدرب للآخرين، كما تسعى الإمارات اليوم في بادراتها الثقافية قصيرة وطويلة المدى".