الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يهدي نظيره الأمريكي كرة قدم في هلسنكي (أرشيف)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يهدي نظيره الأمريكي كرة قدم في هلسنكي (أرشيف)
الأربعاء 18 يوليو 2018 / 20:25

خوف أوروبا بعد قمة هلسنكي

أوروبا لا تطمئنّ إلاّ في ظلّ ديمقراطيّتين ليبراليّتين مستقرّتين في واشنطن وموسكو، تجتمع فيهما نوازع التعاون واستبعاد التوتّر من دون أيّ امّحاء، أو خضوع، تمارسه واحدتهما حيال الأخرى

منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية حتّى اليوم، عرفتْ علاقات المثلّث الأمريكي الأوروبي الروسي مراحل ثلاثاً:
- مرحلة التنافس بين واشنطن وموسكو التي غلب عليها التوتر، دون أن تنعدم لحظات الانفراج.

هذه كانت الحال عموماً في عهود جوزيف ستالين، ونيكيتا خروتشوف وليونيد بريجنيف. أسوأها مع الأوّل وأحسنها نسبياً مع الثاني، أما مع الثالث فكانت بين بين.

تلك المرحلة الطويلة نسبياً 1945 – 1989، أخافت القارة الأوروبية بعدما شطرتها شطرين متعاديين، واحداً غربياً حليفاً للولايات المتحدة، وآخر شرقياً تابعاً لموسكو.

 الحرب الباردة التي انطلقت عملياً من برلين، كانت بالدرجة الأولى حرباً في أوروبا وعليها. هنا، اقترن الخوف بضمانات كان يقدمها الحليف الأقوى: في هذا المعنى، ولد حلفا الأطلسي الناتو، ووارسو في سياق الصراع هذا.

- مرحلة الاستسلام الروسي للولايات المتحدة. إنها السنوات التي تلت مباشرةً حقبة الحرب الباردة وانهيار الشيوعية، لا سيما في ظل رئاسة بوريس يلتسن. هذا ما طمأن الأوروبيين وألغى مخاوفهم الأمنية، خصوصاً وقد تأدى عنه سقوط الأنظمة الشيوعية في الشطر الشرقي من القارة والذي انضمت بعض دوله إلى الاتحاد الأوروبي وإلى حلف الناتو.

مع هذا فالاستسلام الكامل الذي صحبه انهيار في القيادة الروسية مثلته شخصية يلتسن، المتداعي والسكير، لم يحمل الاطمئنان لمن هم أبعد نظراً في أوروبا. ذاك أن احتقاناً روسياً منشؤه الشعور بالضعف والامتهان قد يولد ردة قويّة ضد الجار الأوروبي، وضد نظامه وطريقة حياته الديمقراطيين والليبراليين بالتالي.

- وبالفعل ما لبثت أن حضرت المرحلة الثالثة لتحمل هذا المعنى: إنها عهد فلاديمير بوتين، الشعبوي وضابط المخابرات المهووس باستعادة قوة روسيا، والمستفيد، لأجل إتمام مشروعه هذا، من ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي.

لكن هذه المرحلة المستمرّة وجدت تعزيزها، أقله في السنتين الماضيتين، في الرضوخ العملي الذي تبديه واشنطن حيال موسكو، في ظل رئاسة دونالد ترامب. هذا ما تجلى في أمور كثيرة كان آخرها قمة هلسنكي التي انعقدت قبل يّام: لقد ذهب ترامب إلى حدّ غير مسبوق، فكذب المؤسسات الأمنية والدستورية التي يرأسها هو نفسه، وصادق على رواية بوتين عن "عدم التدخل" الروسي في الانتخابات الرئاسيّة الأميركية، وإن تراجع عن روايته بعد يوم واحد!.

هذا الوضع الغريب الذي يختزنه الطور الراهن من المرحلة الثالثة هو الأخطر على أوروبا والأشد مدعاة لخوفها. ففي مقابل أعمال التدخل الروسيّ في شؤونها، وفي حياتها السياسية، والذي كثرت تعابيره وبراهينه، تنعدم الضمانة الأمريكيّة بحمايتها. ليس هذا فحسب: فالرئيس الأمريكي لم يعد يتردد في وصف أوروبا بـ "الخصم"، فيخوض ضد الاتّحاد الأوروبي، وضد حلفاء آخرين ككندا، حرباً تجارية، ولا يكتم تأييده، بل حماسته، لإضعاف الاتحاد بنتيجة انفصال بريطانيا عنه.

وعلى مستوى أبعد، يلوح كأن تحالفاً شعبوياً مناهضاً لليبرالية يجمع بين الرئيسين الروسي والأمريكي ضد الديمقراطيّات الليبرالية في أوروبا الغربية، خصوصاً في ألمانيا المستشارة ميركل، وفرنسا الرئيس ماكرون.

قصارى القول إن أوروبا لا تطمئن إلا في ظل ديمقراطيّتين ليبراليتين مستقرتين في واشنطن وموسكو، تجتمع فيهما نوازع التعاون واستبعاد التوتر دون أي امحاء، أو خضوع، تمارسه واحدتهما حيال الأخرى.

وغني عن القول إن هذه الحال المثلى أبعد ما تكون عن الحال الراهنة. وأغلب الظن أن سنوات يصعب تقديرها سوف تفصلنا عن تلك الحال المثلى.