السبت 28 يوليو 2018 / 19:30

التعليم الديني ورعاية الأخلاق

لا يجب أن يقف التعليم الديني عند حشو الأدمغة بالمعلومات التاريخية والمرويات والمأثورات والمقولات والأحكام، كما نرى الآن في الغالب الأعم، إنما يكون من الضروري أن يسوق كل هذا لخدمة التربية الأخلاقية، كي تظفر مجتمعاتنا بأفراد قد تأدبوا وتهذبوا وحازوا الفضائل والقيم الإيجابية، التي تسهم في صناعة التقدم، وتحسين أحوالنا وظروف عيشنا التي تردت إلى مستوى مفزع ومخز في آن.

فالسلوك هو الذي يحدد شخصية الإنسان أمام من يتعاملون معه، وليس فقط أفكاره المضمرة، ولا ما يتفوه به عما يستقر داخله من تصورات وقيم أخلاقية واتجاهات متعددة، فالحكم على شخص أو الوصول إلى وصف عام لشخصيته، قوي أم ضعيف، مندفع أم رزين، شجاع أم جبان، متزن أم مضطرب، يعتمد على تقديرنا لسلوكه، وفهم ما فيه من جوانب دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية ونفسية، ثم إدراك علاقة التوازن بين الفرد والمجتمع، والمصلحة الخاصة والعامة، على اعتبار أن غاية تربية الفرد، هي بناء المجتمع السليم.

ولذا فإن إنتاج السلوك الإيجابي هو غاية الأديان وكثير من الفلسفات والنظريات والأفكار البناءة، ولذا ظل مسألة تشغل العلماء في مشارق الأرض ومغاربها، فأدخلوا تصرفات البشر إلى المعامل والمختبرات، بغية التحكم فيها، وضبط ردود الأفعال عليها، والتنبؤ بها، بما يواكب حركة تقدم المجتمع البشري وتطوره الذي يمضي بلا هوادة، وكذلك بما يصنع صورة عامة لأي أمة تجعل من الممكن اكتشاف القيمة الأكثر تمثيلا لها، مثلما فعل أندريه سيجفريد في كتابه "سيكولوجية الشعوب" الذي انتهى فيه إلى وصف الألمان بـ "النظام" والإنجليز بـ "العناد" والفرنسيين بـ "البراعة" و"الأمريكان بـ "الديناميكية" والروس بـ "التصوف".

وبوسعي في هذا المقام أن أطرح الأفكار المدنية حول التربية الأخلاقية بشقيها القائمين على القيم الأخلاقية والالتزام الأخلاقي، والتي تنبني على منظومة قيم أساسية مثل الاستحقاق والجدارة، والإنجاز والاحترام والتعاون أو التبادل والعمل الجماعي والحرية والعدل والمساواة والتسامح، لكن من نخاطبهم، وهم المختصون بالعلوم الدينية والوعاظ والدعاة، سيتعاملون بحذر، إن لم يكن برفض، مع هذا المسلك، وسيحيلون دوما إلى ما لديهم، على اعتبار أنه يكفيهم. ولذا فإني أحاججهم هنا بما يألفونه، ويتحمسون له، لكنهم يهملونه إهمالا جارحا وبارحا، فربما تكون هذه طريقة أجدى في الإقناع المبدئي، الذي يجب أن يتبعه نقاش حول ما تتطلبه قضية الأخلاق من توسيع دائرة فهمها، وربطها بمقتضيات عصرنا، والانفتاح على أي عطاءات أو إسهامات عنها وحولها.

وهنا أقول ابتداء أنه من باب أولى أن يهتم القائمون على التعليم الديني الإسلامي في توظيف ما أتاحه لهم الدين من تعاليم في التربية الإيمانية والعقلية والجسدية للإنسان لصقل سلوكه ليكون حسناً، ممتثلين للأقوال المنسوبة إلى الرسول (عليه الصلاة والسلام)، والمتوافقة مع القرآن الكريم:
"أكمل المؤمنين أحسنهم خلقاً".

" إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً".

"إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم".

"ما من شئ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذئ".
وحين سئل (عليه الصلاة والسلام) في أكثر ما يدخل الناس الجنة، قال: "تقوي الله وحسن الخلق".

ويجب أيضا الامتثال لكل عطاء القرآن الكريم الذي يصف الرسول قائلا: "إنك لعلى خلق عظيم" (القلم: 4)، في تهذيب جوانب السلوك الإنساني كافة، بدءاً بعلاقته الخاصة مع ربه حتي اتساقه مع نفسه، مرورا بعلاقته مع والديه وزوجته وأبنائه وأقربائه وذوي رحمه وجيرانه وأصدقائه ومجتمعه، بما يسهم في تكوين "الإنسان الأصلح" الذي يرتقي في إنسانيته حتى يصير كثير الحياء، قليل الأذي، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، براً، وصولاً، وقوراً، صبوراً، شكوراً، رضياً، حليماً، وفياً، عفيفا،ً ولا لعانا، ولا سباباً، ولا نماما، ولا مغتاباً، ولا عجولاً، ولا حقوداً، ولا بخيلاً، ولا حسوداً، بشاشاً هشاشاً، يحب في الله، ويبغض في الله.

وقد جعل القرآن من الأخلاق قضية جوهرية، جانب منها ربانيَّ، لا تهزه الأهواء، ولا تجرحه الشهوات، ولا يتحول عن قواعده، أو يتبدل لخدمة طبقة أو طائفة من الناس، لأنهم سواسية، مصروفة كرامتهم في الدنيا إلى آدميتهم: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" ( الإسراء: 70)، وفي الآخرة إلى تقواهم، وليس لجاه أو منصب أو مال أو عصبة أو عزوة: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجلعناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" ( الحجرات: 13).
كما يجعل القرآن جانبا من الأخلاق إنسانيا، حيث تُصان الحرمات، وتُحمى الحقوق، ويجري التواؤم بينها وبين الطبيعة السوية للبشر، وبين بعض ما يميزهم عمن سواهم من مخلوقات الله، وأن تنبع من داخلهم، لا تفرض عليهم فرض القهر والتحكم والتسلط، وأن تراعي الطبيعة المزدوجة للإنسان الناشئة عن نفخة الروح، وقبضة الطين، فتلبي الاحتياجات المشروعة للجسد، وتراعي إشراقة الروح، دون أن تهمل ما يواجهه الفرد من ظروف وأحوال ومستلزمات، أو تتخلى عن سعيها الدائم الدائب في سبيل تحقيق الكمال الإنساني.

ولمس الإمام محمد عبده الغاية الأخلاقية في الإسلام فربط العبادات بها، حيث رأى في كتابه "رسالة التوحيد"، الذي يلمس فيه جوهر هذا الدين، أن العبادات في الإسلام تتوافق مع يليق بجلال الله وسمو وجوده عن الأشياء، وتلتئم مع المعروف عند العقول السلمية. فالصلاة بكل حركاتها تصدر عن الشعور بالسلطان الإلهي، فتخلق التواضع والتضرع، والسعي الدائم للإنتهاء من الفحشاء والمنكر من السلوك. والصوم حرمان يعظم به أمر الله النفس، وتعرف به مقادير النعم عند فقدها، ومكان الإحسان الإلهي في التفضل بها، وهو بذلك يخلق روح المشاركة، ووحدة الإحساس، بين الغني والفقير، والقوي والضعيف. والحج تذكير للإنسان بأوليات حاجاته، وتعهد له بتمثيل المساواة بين الإنسان وغيره، ولو لمرة في العمر، ورفع الامتياز بين الناس، وتعميق شعورهم بالتقارب ووحدة الأصل والمصير. والزكاة تعزز الشعور بالتقارب مع الله ومع المجتمع في آن.

أما المعاملات بين الناس، فيجب أن تتحلى بقيم المحبة والتراحم والتكافل وتوقير الكبير والعطف على الصغير، والابتعاد عن الجدال العقيم والفجر في الخصومة وصولا إلى الأشياء البسيطة مثل البشاشة في وجوه الناس، وحفظ إسمائهم، وذكر خصالهم المميزة، والتصرف حيالهم، وفق "المداراة" وليست "المداهنة"، بما تعنيه الأولي من خفض الجناح للناس، والرفق بالجاهل في محاولة تعليمه، وبالفاسق في نهيه عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حتي لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، وما تعنيه الثانية من التلطف الذي يقر الخاطئ على خطئه، والفاسق على فسقه، والسائر على هواه.

ويحض القرآن على قيمة العمل وضرورته، فيقول الله تعالى: "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فأمشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور" (الملك:15)، ويقول: "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله" (الجمعة :10). كما يذكرنا في نصه وتفاسيره أن أنبياء الله ورسله كانوا يأكلون من عمل أيديهم، فقد كان أدم حراثا، وحواء كانت تغزل ثيابها ومثلها مريم، ونوح كان نجاراً، وإدريس خياطاً، وداود زراًدا، وموسي راعياً، وإبراهيم زارعاً، وصالح تاجراً، وزكريا نجاراً، ولقمان خياطاً، وسليمان خواصاً، وشعيب وهود تاجرين، ومحمد راعيا ثم تاجرا.

وتأتي الأحاديث المنسوبة إلى الرسول الكريم لتؤكد قيمة العمل، ومنها:

"من بات كالَّا من عمله يديه بات مغفورا له".

"فضل العامل على العابد كفضلي على سائر الناس".

"لأن يحتطب أحدكم حزمة علي ظهره، خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه".

"أفضل كسب الرجل كسب يد العامل إذا نصح".

والمال في الإسلام مال الله، وهو هنا لا يعني السيولة النقدية فقط، بل كل عناصر للإنتاج من أرض أو موارد طبيعية وعمل ورأس مال وتنظيم. وهو في الوقت نفسه مال الناس بحكم استخلافهم: "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" (الحديد:7). فالله جعل ملكية الرقبة، وهي الملكية الحقيقية له سبحانه وتعالى، وجعل للإنسان ملكية المنفعة، وهي ملكية محققة لمقاصد الاستخلاف في هذه الأموال، وذلك حتي ينتفح الباب دائماً وأبدا أمام حركة الدفع الإجتماعي، ويتعزز موقف أنصار العدل الإجتماعي كي يعيدوا أوضاع الإمتلاك والإختصاص والحيازة في الأموال إلي درجة التوازن، ونقطة العدل التي تنفي الخلل والظلم، فإن غدا المال "دولة بين الأغنياء"، جازت، بل وجبت، إعادة التوازن بين الفرقاء، بتأسيس التفاوت بينهم علي المشروع من الأسباب، والحلال من الثمرات، وتكافؤ الفرص، وتقدير الجهد المبذول. وفي نطاق المستخلفين وجدنا القرآن يضيف مصطلح المال إلي ضمير الجمع في سبع وأربعين آية، بينما لم يضفه إلى ضمير الفرد سوى في سبع آيات فقط.

وقد عالج القرآن، وبعده الفقه الكثير من الأسباب التي تؤدي إلى الفقر والعوز والاحتياج والإملاق، ومنها الذاتي مثل الكسل والجهل والتبذير، ومنها الطبيعي وهو ما يترتب على وقوع كوارث كالسيول والزلازل والبراكين، ومنها الاجتماعي والاقتصادي مثل قلة الإنتاج، وسوء التوزيع، واضطراب وسائل التكافل والإحسان. ونظر الإسلام إلى الفقر على أنه ليس مشكلة قائمة بذاتها إنما ذات طابع اجتماعي، لم يكتف في علاجها بالبكاء على حال الفقراء البائس، ولا بإسداء النصائح إليهم كي يتحملوا وإلى الأغنياء كي ينظروا إليهم بعين الإشفاق، إنما وضع الإجراءات ومنها توفير فرص العمل، وحق تملك الأرض التي تم إحياؤها بعد موات، ودفع الزكاة والصدقات بوصفها "ضربية في عنق الأغنياء للفقراء"، وحرم كل ما يؤدي إلى الإفتقار، مثل الربا والغش والاحتكار والاكتناز والترف والإسراف ولعب القمار والسفه...إلخ.

فتحريم الربا ناجم عن أنه يسبب العداوة والبغضاء بين الأفراد، ويقضي علي روح التعاون، حين يصنع طبقة مترفة تتضخم الأموال في يدها دون تعب، وطبقة تتعب وتكدح وتعيش في فقر مدقع، وهذا يناقض منهج القرآن الذي يدعو إلى الجد في العمل، ويجعله أفضل وسيلة من وسائل الكسب.

أما الاحتكار فيؤدي إلى حرمان الناس من الحصول على ما يريدون من احتياجات، ويعطي المحتكر فرصة كي يغالي في السعر كيفما شاء، ويجني ثمار طمعه وجشعه أموالا يكنزها، فيزداد التفاوت بين الطبقات، ويتفشى الحقد والغبن والحسد، ولهذا ربط الرسول الاحتكار بسوء الاعتقاد حين قال عليه الصلاة والسلام: "من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه". وفي الغش نسب إلى الرسول: "من غشنا فليس منا"، وهذا أمر مفهوم في إطار الآية التي توعدت هؤلاء بالويل والثبور: "ويل للمطففين الذين إذا إكتالوا علي الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون" (المطففين:1/3). وتحريم الرشوة مرده إلى أنها تزيد من الفساد الاجتماعي، حين تمنع أي فقير مجتهد من الحصول على ما يستحقه من فرص، وتخرب ذمم من بيدهم تسيير أمور الناس الحياتية. ولهذا يُنسب للرسول: "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما".

ويريد القرآن السلوك الاقتصادي للفرد منا أن يكون متوازنا ومعتدلا، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما" (الفرقان:67). ويقول أيضا: "ولا تجعل يدك مغلولة إلي عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً" ( الإسراء: 29). وهناك أحاديث منسوبة للرسول تؤكد هذه القيمة، ومنها:

" ليس الغني عن كثرة العرض، ولكن الغني غني النفس".

"الاقتصاد نصف المعيشة، فما عال من اقتصد".

"بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه".

أما التوازن في العمل والكد وبذل الجهد فتعكسه أحاديث أخرى منها: "إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقي" و "ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر فليرقد".

ويأخذ السلوك الاجتماعي الذي يحض عليه القرآن وما وافقه من أحاديث نبوية درجات متتابعة، تعزز التكافل والتراحم والتعاون، بادئة بالوالدين، الذين يجعل الله البر بهما يأتي مباشرة عقب الإيمان به سبحانه، إذ تقول الآية الكريمة: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً" (الأنعام:51) وتقول ثانية: "ووصينا الإنسان بوالديه" (لقمان:14) وثالثة: "وقضي ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالين إحساناً" (الإسراء :23) وأيضا "وأعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا" (النساء: 36).

وهناك حديثان منسوبان للرسول (عليه الصلاة والسلام) يحضان على بر الوالدين:

"رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة".

ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: سألت النبي صلي الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلي الله تعالي؟ قال: "الصلاة علي وقتها"، قلت ثم أي؟ قال: "بر الوالدين"ـ قلت ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله".

ويأمر القرآن الرجل بأن يحسن معاملة زوجته: "وعاشروهن بالمعروف" (النساء:19)، فيما تُنسب إلى الرسول عدة أقوال في هذا الشأن منها: "أوصيكم بالنساء خيراً"، و"خياركم خياركم لنسائكم"، و"الدنيا متاعها المرأة الصالحة". وجاء الفقه لينظم، بمنطق الزمن الذي أُنتج فيه، علاقة الزوجين في مختلف الأحوال: الرضا والسخط واللين والشدة والفرح والحزن، وعلاقة الأبوين بأبنائهما في التربية التي تبدأ بالتدليل المتوازن الذي يفضي إلى إفساد، والتعليم والتدريب، وتعود الاعتماد على النفس، وكذلك في الإنفاق والإعالة، إذ يقول القرآن: "لينفق ذو وسعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله" (الطلاق: 7)، فيما ينسب للرسول: "كفي بالمرء إثما أن يضيع من يقوت".

وبعد الأسرة الصغيرة يأتي حق الجار، وهنا يُنسب للرسول: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتي ظننت أنه سيورثه"، و"والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه"، و"لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره"، و"يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة". أما الأقربون فالقرآن يحض على صلة رحمهم: "هل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمي أبصارهم"، (محمد: 22ـ 23). وينسب للرسول: "ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها"، و"الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله"، و"لا يدخل الجنة قاطع رحم".

ويأتي الأصدقاء فيُنسب للرسول قوله بشأنهم: "المرء علي دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل" و "مثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك، إن لم يصبك منه شئ أصابك من ريحه. ومثل الجليس السوء كمثل نافخ الكير إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه".

وبعدها يأتي الناس أجمعين حيث يحض الرسول على مخالطتهم ومشاركتهم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر علي أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر علي أذاهم".
"كونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث". ويأمر القرآن بأن يبذل الفرد كل جهد مستطاع في سبيل الإصلاح بين الناس: "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما" (النساء: 114).

ولا يُقصر الإسلام حسن معاملة الناس على المتفقين مع المسلم في الاعتقاد، إنما يمتد إلى أهل الأديان الأخرى. فالقرآن يقر قاعدة تقول: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" (الحجرات:13).

وممارسات الرسول حيال أهل نجران وكتابته للنجاشي ملك الحبشة، وقيصر إمبراطور الروم، والمقوقس حاكم مصر، وما أتي في حجة الوداع ، فيها الكثير من القواعد والنصائح والعبر التي وجب على المسلمين الالتزام بها.

وهناك مبادئ عدة تحدد العلاقة بين المسلم وغير المسلم، فللأخير الحق في الحياة، حتى أن القصاص في الإسلام لا يعرف التفرقة بين نفس ونفس، فالحياة عطاء إلهي لا يسلبه إلا واهبه، وهنا يقول القرآن: "إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير" (ق: 43)، وغير المسلم آمن علي عيشه وأهله وماله، حتى لو كان مشركا، وهنا يقول القرآن: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره، حتي يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمته " (التوبة:6)، وهناك تفسير لهذه الآية يقول صاحبه عبد الكريم الخطيب: "لا حيلة لأحد ولا سلطان أن يناله بر أو أذي، فهو الآن في ذمة رسول الله، ومن اتبعه, ولذا توجب سلامته، وتحقق كفالته وأمنه ما دام كنا في ديار المسلمين وحماهم، فإن أراد المضي لبيت رغبه، توفرت حمايته وحراسته حتي يأتي إلي عشيرته".

ولغير المسلمين حق العهد والوفاء بمواثيقهم إلا إذا خانوا، وهنا يقول القرآن: "إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقضوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلي مدتهم إن الله يحب المتقين" (التوبة:4).

كما أن لهم حق العمل، وحرية الكسب، إلا ما خالف حدود الله. ولم يكن في التشريع الإسلامي القديم ما يوصد الباب أمام الذميين في تولي الأعمال وتولي بعض المناصب شريطة أن يتوفر فيهم الإخلاص والأمانة والكفاية والكفاءة. ولهم أيضا حق التعليم، فالرسول لم ير بأساً بتعليم غير المسلمين لأبناء المسلمين إذا اقتضت الضرورة، ولهم حق الجوار والتملك. وقد تعاطى الفقه الإسلامي المستنير، الذي يؤمن أصحابه بأن باب الاجتهاد مفتوح بلا انقطاع لمواكبة تجدد الظروف والأحوال، مع قضية "المواطنة" التي لا تعامل المختلفين في الدين، ممن يعيشون في ديار المسلمين، على أنهم "أهل ذمة" مثلما كان سائدا في الزمن القديم، إنما هم مواطنون كاملو الأهلية، لهم ما للمسلمين في الدنيا من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات.

ويشترط كل ما سبق من سلوك اجتماعي البدء بتربية النفس، أو تقويم الذات على الالتزام بما فرضه القرآن وأوجبه. فمن أخلاقيات الإسلام أنه يؤدب النفس، غير مكتف بالسلوك الظاهر، إنما يدعو إلى سلامة النية والطوية، وإليهما يُسند الأعمال، حيث يقول الحديث: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي"، ويفتح أبواب أربعة لمثل هذا التأدب، وهي: التوبة والمراقبة والمحاسبة والمجاهدة.

فالتوبة تعني مقاومة هوى النفس، والتخلي عن سائر المعاصي والذنوب، والندم علي كل ذنب سلف، والعزم علي عدم العودة إليه فيما هو آت. وهنا يقول القرآن الكريم: "استغفروا ربكم ثم توبوا إليه" (هود: 3)، و"وتوبوا إلي الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون" (النور:31) فيما يكون باب التوبة مفتوحا، فالحديث يقول: "إن الله يبسط يده بالتوبة لمسئ الليل النهار، ولمسئ النهار إلي الليل حتي تطلع الشمس من مغربها".

ويهتم الإسلام بتربية الفرد علي الحلم والأناة والأمل والرجاء وهجر اليأس والقنوط وترك القلق والخوف والاحتمال والعفو والوقار والسكينة والتحرر من الخجل، الذي يقوده إلى الإنكماش والإنطواء، والتحلي بالحياء الذي هو من الإيمان، وقد وردت الكثير من الأحاديث التي تحض على فضيلة الحياء:

"إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء".

" الحياء من الإيمان".

"الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأقصاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذي من الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".

في المقابل عوَّد الإسلام الفرد علي الجرأة الأدبية شريطة ألا تصبح وقاحة وسماجة، ونهي الإسلام عن "العجب بالنفس"، ورآه من أعظم المهالك في الحال والمآل، وهنا يقول الحديث: "ثلاث مهلكات، شح مشاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه"، ونهى الإسلام عن اغترار الإنسان بماله فيتعالى على الناس ويبذخ، واغتراره بقوته فيظلم، واغتراره بنسبه فيتكبر، واغتراره بعبادته فيشقى، ويحبط عمله. وجعل القرآن لعلاج الغرور مقامين، أن يعرف الإنسان نفسه: "من نطفة خلقه فقدره"، وأن يعرف ربه: "ليس كمثله شيء"، ولذا يوجب الإسلام كراهية مدح الذات، فالقرأن يقول:

"فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقي" (النجم: 32).

"ألم تر إلي الذين يزكون أنفسهم، بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا" (النساء: 49).

ويعلمنا القرآن فضيلة الصبر، ويقدمها على الصلاة والتقوى، فيقول: "واستعينوا بالصبر والصلاة" (البقرة: 45) و"يأيها الذين آمنوا أصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون" (آل عمران:200)، ويرى بعض الفقهاء أن الصبر على المكاره والمصائب يبدأ مع النفس، وهو أشد أنواعه وأقواها، ويكون بـ "كف الباطن من حديث النفس".

ويعلمنا الرسول حفظ أسرار الناس، والابتعاد عن الثرثرة والاغتياب، وتنسب إليه في هذا أحاديث عدة منها :

"استعينوا علي قضاء حوائجكم بالكتمان".

"إن من أشر الناس منزلة عند الله يوم القيامة، الرجل يفضي إلي زوجته وتفضي إليه ثم ينشر سرها".

ويقول ثابت عن أنس (رضي الله عنه): أتي رسول الله صلي الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان، فسلم علينا، فبعثني في حاجة، فأبطأت علي أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ فقلت: بعثني رسول الله لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: أنها سر، قالت: لا تخبرن بسر رسول الله أحداً، قال أنس: والله لو حدثت به أحد لحدثتك به يا ثابت".

ويغرس القرآن حب الله والناس والحق والفضيلة والجمال في النفس الإنسانية، ويجعله من الإيمان، وهنا يقول: "والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم" (الحشر: 9). ووردت في هذا أحاديث عدة منها:

"ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار".

"إن الله تعالي يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي".

"قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي، لهم من منابر من نور يغطيهم النبيون والشهداء".
"لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه كما يحب لنفسه".

وقد دخل القرآن إلى النفس البشرية من كل مدخل محافظاً علي الطبيعة المزدوجة للإنسان، بوصفه قبضة طين ونفخة روح، حيث يقول القرآن الكريم: "وإذا قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" ( ص: 71 و 72)، وبوصفه أيضا يجمع بين جنبيه نفسا فيها من الخير كما فيها من الشر، وفيه من الفجور كما فيه من التقوى: "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها" (الشمس: 7 و8). ففي كل نفس قيم واتجاهات متناقضة: الخوف والرجاء، والحب والكره، والصبر والقلق، والالتزام والتفلت، والواقعية والمثالية، والحسي والمعنوي، والإيجابي والسلبي. ويجب أن يكون دور الدين هو تزكية القيم الإيجابية والفضائل ويحد من السلبيات والمثالب والرذائل، ساعيا بالفرد إلى أن يصل إلى الكمال الإنساني.
إن كل ما سبق من مظاهر سلوكية، بدت هي ما ينبغي أن يكون، يجب أن يحظى باهتمام التعليم الديني، الذي أفرط فيما هو كائن في حديث مكرور عن العبادات والرقائق، وجعل منها جل ما يعظ به الناس ويرشدهم له، في وقت تردت فيه الأخلاق، واضطربت التصرفات، واهتزت الفضائل، وانصرمت القيم، بما يهدد مجتمعاتنا بالتحلل، ويخصم الكثير من القوة الناعمة لدولنا.