رئيس وزراء كمبوديا هون سنّ.(أرشيف)
رئيس وزراء كمبوديا هون سنّ.(أرشيف)
الأربعاء 1 أغسطس 2018 / 20:08

عبرة هون سِنّ الكمبوديّ

كلّ ابتعاد عن السياسة نحو العنف، ولو بذريعة الكفاح المسلّح والتحرّر الوطنيّ، هو تأسيس لمستقبل يقوم على الاستبداد والفساد، مستقبلٍ يجثم بقوّة على صدر المستقبل

في أسماء الاستبداد والمستبدّين في عصرنا ثمّة اسم قليلاً ما نذكره، وإن أعادته الأحداث إلى الواجهة قبل أيّام. إنّه: هون سِنّ. فمن الذي يذكر اسم هون سِن زعيم "حزب الشعب الكمبوديّ"؟ العالم سمع باسمه، ربّما للمرّة الأولى، في 1979، حين نشبت الحرب بين فيتنام وكمبوديا بعد عدد من المناوشات الحدوديّة، ونجحت الأولى في إلحاق الهزيمة بالثانية وفي احتلالها. آنذاك بدت الحرب مواجهة بين طرفين يصعب الدفاع عن أيّ منهما: ففيتنام تمارس عملاً توسّعيّاً واحتلاليّاً لبلد مجاور ذي سيادة، والعمل هذا يندرج في خدمة النفوذ الروسيّ في آسيا، إبّان احتدام الصراع بين النفوذين السوفياتيّ والصينيّ. أمّا كمبوديا فكان يحكمها "الخمير الحمر"، وهم الشيوعيّون الماويّون الذين أقاموا نظاماً استثنائيّاً في وحشيّته على رأسه بول بوت. النظام هذا وزعيمه قتلا أكثر من مليوني إنسان وجوّعا من أتيح له البقاء على قيد الحياة. وبدوره اندرج هذا النظام في خدمة النفوذ الإقليميّ للصين. ثمّ إنّ النظامين، ولو مع تسجيل التفوّق للكمبوديّ، كانا نظامي حزب واحد يستأصل بلا رحمة أو تردّد كلّ معارضة سياسيّة.

حين نجحت فيتنام في إطاحة نظام الخمير الحمر، كان هون سِن أبرز القادة الذين لعبوا دور الواجهة الوطنيّة للاحتلال الفيتناميّ. فهو قياديّ سابق في الخمير الحمر انشقّ عنهم من دون أن يتخلى عن الشيوعية التي اعتنقها منذ شبابه المبكر. وبصفته هذه انحاز إلى الخط الفيتناميّ – السوفياتيّ ضدّ الماويّين – البولبوتيّين.

لكنْ في 1985 حصلت النقلة الكبرى في حياته بتسليمه رئاسة الحكومة وزعامة الحزب الحاكم. ثمّ في 1993 توطّد هذا النظام باعتماده اللفظيّة الديمقراطيّة البرلمانيّة كما بإعادة المَلكيّة إلى البلاد. لكنّ الملكيّة، وبعد أن طُوّعت بالقوّة باتت اسميّة فحسب، تُستخدم تزييناً لديكتاتوريّة هون سِنّ، فيما الانتخابات النيابيّة (التي تمّ تبنّيها ووضع أسسها بالاتّفاق مع راعيتها النظريّة: الأمم المتّحدة) فُرّغت من مضمونها وأصبحت، هي الأخرى، واجهة لحكم الحزب الواحد.

هكذا استطاع هون سِنّ أن يحكم كرئيس للوزراء منذ 1985، أي أنّه غدا أطول مَن يستقرّ في هذا المنصب عالميّاً (33 سنة بلا انقطاع)، ناهيك عن ستّ سنوات (1979 – 1985) كان فيها الوجه الكمبوديّ الأبرز في ظلّ السطوة والنفوذ الفيتناميّين.

قبل أسبوع واحد، أجريت انتخابات شكليّة أخرى في كمبوديا منحت هون سِنّ وحزبه، حزب الشعب الكمبوديّ، تفويضاً جديداً (80 في المئة من الأصوات و100 مقعد من أصل 125). وكان النظام قد مهّد لنتيجة كهذه بأن حلّ، في العام الماضي، حزب "الإنقاذ الوطنيّ لكمبوديا"، أبرز أحزاب المعارضة التي تُركت على قيد الحياة، كما اعتقل زعيمه كيم سوخا بتهمة لا تقلّ عن الخيانة العظمى؟.
هون سِنّ، صاحب السنوات الأطول عالميّاً في رئاسة الحكومة، يرعى اليوم نظاماً مشهوراً بفساده، كما يتكاثر المشكّكون بالنوايا التوريثيّة لأبنائه من بعده.

يبقى المدهش في هذا النمط من الأنظمة انبثاقها عن حروب تحرير رافقها تبنٍّ لعقائد ماركسيّة ولينينيّة متطرّفة (بقدر من التفاوت: كوريا الشماليّة، كمبوديا، أريتريا، زيمبابوي حتّى انقلاب الأمس القريب...). وهذا، مرّة أخرى، يعيدنا إلى تلك المعادلة المدهشة التي تكاد لا تخطىء: كلّ ابتعاد عن السياسة نحو العنف، ولو بذريعة الكفاح المسلّح والتحرّر الوطنيّ، هو تأسيس لمستقبل يقوم على الاستبداد والفساد، مستقبلٍ يجثم بقوّة على صدر المستقبل.