السبت 4 أغسطس 2018 / 19:23

دوغمائية العلم

مر المصطلح الفلسفي دوغما dogma بمراحل تطور متعددة، سأتجاوزها لأقول إن المقصود بها اليوم، هو التعصب ودعوى امتلاك الحقيقة المطلقة، سواء كان المدعي خطاباً دينياً أم علمانياً.

التعصب خلل في طبيعة التفكير، فالعقل المتعصب، عقل مغلق على نفسه، سواء كان ماركسياً أم من جماعة داعش، إنه عقل يجلس جِلسة اليوغا في غرفة مظلمة. في مثل هذه الحالة لا يمكن للعقل أن يتجاوز نفسه، ولا أن يعرف روح المغامرة. ما أريد أن أقوله اليوم هو أن العلم الحديث ذاته، قد وقع في هذه الدوغمائية، وفي ذلك حكاية ينبغي ألا ننساها.

لقد أتيح لنا في القرنين العشرين والواحد والعشرين ما لم يتح للسابقين من التنعم بمنتجات العلم والتكنولوجيا، ما جعل حياتنا أكثر سهولة وأكثر تسلية، مع بقاء الأسئلة الكبرى التي تباغت الإنسان وتطعنه في صميم وجوده، دون حل مطلق.

إنه عصر العلم والتكنولوجيا وعصر غزو الفضاء وصعود الإنسان إلى القمر، إنه العصر الذي تحققت فيه أحلام الفيلسوف اإنجليزي فرانسيس بيكون عندما قال: "وسيصنع الناس عربات تنقلهم من مكان إلى آخر دون خيول. وسيطيرون في الهواء من خلال عربات تطير في السماء". هذا نص من كتاب اسمه (New Atlantis) إطلانطس الجديدة لفرانسيس بيكون. والمذهل أن هذه الرواية الخيالية قد كُتبت في عام 1624 باللاتينية، ثم عاد بيكون وكتبها بالإنجليزية في عام 1627. لم يتنبأ فقط بصناعة الطائرات والسيارات بل تنبأ أيضاً بالتكييف المنزلي، وتنبأ باختراع التلفزيون، وكذا الغواصات البحرية، ومر تقريباً على معظم الاختراعات الحديثة بدون استدلال علمي واحد. فقط، كان يحلم. ليس لنا أن نظن أن هذا الرجل كان ولياً من أولياء الله، بل لقد كان رجلاً فاسداً فيما يتعلق بالمال، واتهم بتعاطي الرشاوى أثناء عمله في الحكومة، وأودع السجن لذلك.

لقد بدأ اهتمام أوروبا الجديد بالعلم، فجأة في القرن السادس عشر، كما يقول برتراند راسل في كتاب "العلم والدين" بعد فترة من الوجود المتقطّع عند الإغريق والعرب، ليشكّل على نحو متزايد، الأفكار والمؤسسات الحديثة. إلا أن العلم اليوم، وبرغم أنه لا زال مستمراً في التقدم وتحقيق الإنجازات في شتى المجالات، إلا أنه روحه لم تعد هي روحه الأولى، لقد انكسرت أشياء كثيرة.

في نهاية القرن التاسع عشر كان هناك استقطاب حاد ومعركة قائمة بين العلم والدين، فإما أن يختار المثقف أن يكون رجل علم أو رجل لاهوت، أو أن يكون من أتباع أحد الطرفين. والحق أن الكنيسة وإن كانت قد ظلمت رجال العلم كثيراً في العصور الوسيطة وسجنتهم وأذلّت غاليليو غاليلي وأحرقت جيوردانو برونو في 1600 لقوله بنظرية تعدد العوالم (نظرية تتبناها اليوم فيزياء الكوانتم) إلا أن العدواني في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان العلم وليس الكنيسة.

في تلك الحقبة، بدا للعلماء التجريبيين أن هذا الفارس الجديد المسمّى بالعلم، لا يمكن أن يُقهر وأنه سيهزم كل أعدائه. إنه يبدو قادراً على حل كل مشكلات الإنسان والكون كلّه. إنه سيمكننا من السيطرة الكاملة على الطبيعة وسوف نتمكن من قتل الموت نفسه. هكذا كانت الروح العلمية، مندفعة مثل اندفاع الشباب الذي يريد أن يحسم كل معاركه في ليلة. لقد شنّ العلم الحديث حرباً شرسة على الكنيسة وحرص كثيراً على إحراجها وبيان تناقضاتها في كل مناسبة، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل دخل رجال العلم المتخصصون في الفيزياء والرياضيات إلى مضمار الفلسفة الذين هم فيه هواة، بغرض تدمير الفلسفة نفسها، فالفلسفة المثالية القائمة على(الميتافيزيقا) هي حليفة الدين، برغم اختلافها معه على عدد من القضايا الجوهرية. ولأنها حليفة الدين، رأى فلاسفة العلم أنه لا بد من تدميرها هي الأخرى. هكذا بدا للوضعيين من أوغست كونت إلى زمن حلقة فيينا وأستاذهم لودفيغ فتغنشتاين، أن بالإمكان تدمير الفلسفة من باب خدمة العلم، بحيث يتم تطبيق المنهج العلمي على الفلسفة نفسها. هذه الفكرة لم تكن جديدة تماماً فالمنهج العلمي القائم على التجربة وتدوين الملاحظات لم يكن على الحقيقة متحمساً للعقل الفلسفي ولا لفرضياته وكلياته. العلم الحديث لا يؤمن إلا بالحقائق الصغيرة الجزئية التي يتوصل إليها عن طريق التجربة ولا يؤمن بالحقائق الكبرى والغايات. العلماء التجريبيون لا يجدون أدنى غضاضة أو حرج في أن يكتشفوا أن نظرية علمية ما، قيلت في السنة الماضية، قد ثبت بطلانها تماماً في هذه السنة. هكذا عرّف فيلسوف العلم كارل بوبر النظرية العلمية بأنها النظرية القابلة للتكذيب، وهكذا هو العلم : تكذيب وتصحيح لنفسه على مدار الساعة. هذا هو طريق التجربة ولا يمكن توجيه اللوم إليها بأي حال من الأحوال. لكننا نلوم حلقة فيينا ومدرسة أكسفورد ولودفيغ فتغنشتاين وبرتراند راسل، بسبب تطبيقهم للمنهج التجريبي على الفلسفة وذلك حين قالوا إن كل قضايا الميتافيزيقيا خالية من المعنى، لأننا لا يمكن أن نخضع تلك القضايا للتجربة.

لكن، أليست الوضعية نفسها مجرد نظرية ميتافيزيقية أخرى خالية من المعنى لا يمكن إثباتها من خلال التجربة؟! الجواب هو نعم، وقد كانت هذه صدمة كبرى للمثقفين وقراء الفلسفة في ستينات القرن العشرين، وقد أدى هذا السؤال إلى انهيار الوضعية المنطقية سريعاً، مثلما صعدت سريعا، فكل ما كتبوه وطالبوا به كان ميتافيزيقا في ميتافيزيقا.

العلم بدوره فقد روحه الدوغمائية التي بلغت أوجها في القرن التاسع عشر، وبدأ في اكتشاف نفسه مع نسبية آلبرت آينشتاين وكتاب توماس كون "بنية الثورات العلمية". مع هذا الكتاب لم يعد هناك مجال للحديث عن تراكمية العلم. كان العلم يباهي ويفتخر على الفلسفة بأنه يتراكم وهي لا تتراكم، فكل فيلسوف يهدم كلام الفيلسوف الذي قبله. لكن مع توماس كون، ثبت أن العلم لا يتراكم هو الآخر، مجرد ثورات علمية تتابع، وليس بعضها بأولى باليقين من بعض. ولم يعد هناك مجال للحديث عن تطورية العلم، العلم أحياناً يتطور وأحياناً لا يتطور. ومن الواضح من مؤلفات فلاسفة العلم التالية، أنها سارت في طريق كون، ولا زالت النسبية تحقق الانتصارات على الوضعية والواقعية والبراغماتية، النظر في كتاب لاري لودان " العلم والنسبوية" كفيل بتأكيد ذلك.

الفلسفة لها مجالها والعلم له عالمه والدين كذلك له دوره الروحي، ولا ينبغي أن تُخلط هذه الثلاث مع بعضهن فمادتهم متمايزة، والخلط سيشوّه الدين وسيشوّه الفلسفة وسيشوّه العلم. ما الحل؟ الحل يكمن في أن نبذل كل جهد تأملي ممكن لكي نجد طريقاً تتناغم فيه مصادرنا المعرفية والروحية.